الثلاثاء، 20 أكتوبر 2020

رواية قصيرة "صرخة مَيْتٍ" .. تأليف: أ. عبدالاله ماهل

 رواية قصيرة "صرخة مَيْتٍ"

الفصل الأول
تصادف وطلائع فصل الخريف، شارة انذار للطبيعة بقرب حلول مخاضها، جو مكفهر جثا بكل ثقله، فغدا الزمان والمكان تحت رحمته، وبدت السماء ظلمة حالكة، توارت من خلالها اشعاعات القمر، ومن بعيد غيوم سابحة في عمق الفضاء، توحي بآنية الرعد والبرق والمطر.
إنه يوم عيد مولده، نظر إلى ساعة يده، فإذا بها الثامنة مساءا. اقترب الهويني من الشرفة، جال بعينيه إلى حد بصره، فلم يحصد الا تنهيدة فاهت من الاعماق، انتابته الوساوس، فتظاهر بالامبالاة، الا انه لم يقوى على طردها، فتراءت في مخيلته، سيارة ابنه وهي في طريقها إليه، وقد انحرفت ذات اليمين بمنعرج، تآكلت جنباته من فرط التعرية والإهمال، يعرفه هو جيدا؛ ويحق مدى خطورته حق المعرفة، فهوت به إلى قاع الوادي و...
وبكلتا يديه شدة على رأسه، واستعاد بالله من الشيطان الرجيم، واحتمى بتلاوة المعوذتين.
هبت ريح اهتزت لها أغصان الأشجار، فتساقطت على إثرها الاوراق، وتعالى حفيفها، فاشتد الزمهرير. أغلق زجاج النافذة واكتفى، بالنظر والترقب من وراءه، فاسترعى انتباهه حال الطبيعة، وكأنها تقتل نفسها لتجدد كيانها، فلا الشتاء انعشها ولا الربيع ابهجها ولا الصيف امتعها، فلا هذا ولا ذاك اراحها فارتضته ثوبا لخلودها وسترة لابديتها، أهي سنة الحياة!!!
وقد شاءت من دورات الطبيعة، صيرورة الإنسان من حال الى حال، طفولة فشباب فشيخوخة فممات، وكأن الإنسان ما وجد في هذا الكون الا عنوة، قصد التكفير عن دنب ارتكبه السلف، فبات عارا على الخلف.
الفصل الثاني
رفع عينيه إلى السماء وتدرع لله عز وجل، ان يتقبل منه صلواته، وأن يغفر له ما تقدم من دنب السلف، وما تأخر منه كخلف، وحسبه في قرارة نفسه، انه مقصر في عباداتهم، والله أعلم...
فقد ترك المدينة وضوضاءها، واعتزلها إلى البادية وسكونها،
حيت بيت متواضع هناك، انجر إليه إرثا، يأويه بعد عمر طويل أفناه كعامل، كتب عليه عدم الاستفادة من الترقية، نتيجة مواقفه النقابية، دفاعا عن وضعية الشغيلة، قانعا قانتا بما يجود عليه، بداية كل شهر صندوق؛ مند وجد الا وهو مسلط على رقبته لا يتوانى قط في الاقتطاع من راتبه الهزيل ولم يتحرر منه إلا بعد أن بلغ سنه عتيا.
ساعتها، يبيت ليلته أمام الشباك، ليحظى بنصيب الأول في ذلك الطابور الطويل العريض، تفاديا لمحسوبية القائمين عليه وسماسرة مالين الوقت.
...لا شغل له، سوى ترددات منتظمة على زاوية، اتخذها ساكنة قبيلته، مسجدا للصلاة وتلاوة الذكر الحكيم، كانت فيما مضى، محجا لقراءة الطالع والتبرك من ولي صالح، يقال عنه، انه لما قويت شوكته وبات خطرا، خيف منه، وذات يوم ذهب بدون رجعة.
ترمل من حوالي السنة، عاشها كشبه ضيف ثقيل، عند ابنه الوحيد، ضاق الأمرين بتواجده هذا، ضجره على قعدته الدائمة والمسترسلة، وغيظه على زوجة ابنه وعدم تملك أعصابه، وهو يؤازر حفيديه من نرفزتها، ولو كانت على صواب.
لم يدخر الابن جهدا في التوفيق بين ابيه وزوجته، يرضي هذا ويحاول مع تلك، يطوي الحزازات ويفتح صفحة بيضاء، إلا أنها سرعان ما تتلطخ، وتنقلب إلى حرب أعصاب، فالمواجهة، وهكذا دواليك، إلى أن أصبح الاختيار بين حلين أحلاهما مر، يفرض نفسه وبإلحاح، إما تطليق الزوجة وكسب رضاء الوالد، وإما الإبقاء على الزوجة ومعاقة الوالد.
فكر مليا وأطال التفكير، وكل همه الا يسقط في مغبة أحد الحلين، إلى أن نضجت في مخيلته فكرة، غير ان تحقيقها يتطلب الكثير من الدهاء.
الفصل الثالث
وذات يوم استفرد بالوالد، وتحايل على ابيه بكل ما أوتي من ذكاء، وخصوصا منه الوازع الديني، حتى أوقعه في شراك الزواج.
وبإيعاز من الزوجة، اشار على ابيه بإحدى قريبات زوجته، تطلقت على سن متوسط،على خلفية عدم الخلفة، واعياها طلب العيش ودون ضمان، التنقل بين البيوت كخادمة.
وتنازلا عن رغبة الابن وتجديدا للفراش، واصلاحا لذات البيت، ومزيدا من صلة الرحم، رحب الاب بالفكرة والاختيار.
وفي ذلك البيت، القابع بين ادغال وادي أم الربيع، حيت الطبيعة العذراء وأبناء الاعمام، تم القران، فحلا له المقام واحس ان دما جديدا يسري في عروقه، وأن زواجه هذا قد اعاده عشرين سنة إلى الوراء.
رحب الابن برغبة ابيه، وسعد ايما سعادة، وهو يرى ابيه والفرحة تغمره، فلطالما تمنى ان تكون نهايته، في التربة التي انجبته، فمن هنا، هز راحلته مهاجرا مغامرا إلى المدينة، وعمره آنذاك، لا يتجاوز الثامنة عشرة، وذلك بعد أن توفي والده، على أثر فيضانات الوادي وانفراد الخال والعم بحصة الأسد في الميراث، ولا زاد له سوى، ما أخذه عن ظهر قلب من الكتاب.
وقتها، التفتت اليه زوجة ابنه مازحة: اوصيك لطفا بقريبتي وإياك ثم إياك ...اما الابن فقد أحس ان شيئا ما، افتقده إلى الابد، اغرورقت عيناه بالدموع، فتظاهر بالتثاؤب ولم يجد له من عزاء سوى، خلق ألف مناسبة، يتدرع من خلالها حمل الزوجة على زيارة الوالد، تبركا بدعواته ومناسبة لتملي الاولاد بدعابته ودلاله.
الفصل الرابع
لم يعتادوا الاولاد على فراق الجد، فمضوا إلى فراشهم باكرا والدمع ملأ عينيهم، فقد كان الجد بالنسبة لهم، الصدر الحنين والمرتع الخصب، لحكايات ألف ليلة وليلة، نعم الانيس والمؤنس، يغدق عليهم، بدون هوادة، اشهى الحلوى واجمل اللعب، حتى غدت كلمة جدي، فخرا لهم لدى أقرانهم.
...طال الانتظار، انتابه اليأس وغمرته الخيبة، وفجأة لاحت من بعيد اشاعات، أمعن النظر إليها مليا، وتمنى حينها لو كانت لديه عيونا فوق الحمراء، لاختراق الظلام وكشف ما وراء الظلام، انها سيارة ابنه.
تهلل وجهه فرحا وصاح كالطفل، انهم قادمون، وعلى التو نفضت الزوجة ما بيديها، وهرعت تتبعه خارج البيت.
توقفت السيارة، فارتمى الابن والاحفاد بين احضانه، وتسمرت الزوجة مكانها، تنتظر دورها بانتهاء حرارة اللقاء، اختلس نظرة اليها، فحز في نفسه ان يتنكر لها، ومد يده إليها، فانحنت كعادتها وقبلتها بأدب، ربث على كتفها: الله يرضي عليك...
الفصل الخامس
هبت ريح قوية كادت أن تعصف بالأولاد، فهرع الجميع إلى الداخل، وتوا الى المائدة، حيت كعكعة مستديرة الشكل انتصبت جانبا، كتب عليها بالشوكولا: عيد ميلاد سعيد، وشموع غرست بعناية وانتظام، وكؤوس تحف بها، تنتظر نخبها، وقنينات غازية تناثرت هنا وهناك.
أطفئت الانوار وأشعلت الشموع، واتجهت إليه الأنظار وعم الصمت. استجمع الوالد كل انفاسه بل سنين عمره الخمس والستين، فبدت له حاضرة بمرها وحولها، من خلال رقصات اللهيب ودموع الشموع.
ومن عمق أعماقه و "بأف"، لفظها وبقوة دفعة واحدة غير عابئ بها، فعصفت بالشموع واخدت لهيبها وكفكفت دموعها، فتعكر الجو وتعالى الدخان إلى أن تلاشى، وانمحى شأنه في ذلك شأن الخمسة والستين من عمره.
انطلقت زغردة محتشمة، كسرت صمت المكان وسكينة الليل، اعقبتها قبلات التهاني، فانتزاع الشموع وتقسيم الكعكة، ورنت كؤوس الشراب مع الهتاف بحياته: "سنة سعيدة وعمر طويل...
لم يتمالك نفسه وهو محفوف بهالة من فروعه، ولم يدري إلا وسيل من الدموع، تنهمر من عينيه فتمنى لو حلت التعازي محل التهاني، انه عمر ذهب سدى بدون رجعة، ولم يبقى منه سوى ذكريات، مازالت عالقة في مخيلته وجروح دامية لم ولن يضمدها، الزمان ولا حتى بلسم المكان أبدا.
الفصل السادس
انزوى بركنية كئيبا شارد الفكر، يكاد الأسى يميته قبل أوانه، لقد فات الكثير من عمره ولم يتبقى منه إلا القليل.
استرخى على أحد الأرائك واشعل سيجارة، وأخذ ينفت دخانها في تأني، ويستعذب نكهتها في نشوة، تلهيه عن حاله.
فجأة استرعى انتباهه لوحة، كانت مشدودة على الحائط لم يشأ تبديدها، بدت عليها شجرة العائلة ماثلة شامخة بشموخ اشخاصها وكأنها التاريخ بعينه عبر تسلسل هرمي انطلاقا من الاصل- آدم-حواء- فالفروع فالحواشي، كلهم أتت عليهم يد المنون، فلم تبقي على أحد وكأن الحياة مسيرة مسترسلة، بدايتها الأزل ونهايتها الأبد، وما تواجد الإنسان فيها الا مؤقتا، ولادة فممات وبين هذه وتلك، رحلة قصيرة أشبه ما تكون، سحابة صيف عابرة.
رجع إلى نفسه وابتسم ساخرا: انا عدم قبل الولادة، أنا عدم بعد الممات، أنا موجود بين هذه وتلك، ومن أدراني أني موجود، الفكر ام الجسد أم هما معا!!! إذن أنا لغز في هذه الحياه!!!
نهض من مكانه وكأنه يريد خلاصا، فانتصب واقفا أمام شجرة العائلة، أمعن النظر إليها، أملا في سبر أغوارها، فإذا بها تنعرج صعودا إلى السماء، وتنكص نزولا في عمق الأرض، وكأن السماء حلمها والأرض مرجعها، بداية ونهاية.
هنا تعجب لحاله وحال الإنسان، عقل مستلب حالم بالسماء وذات راضية خانعة بالأرض، فلا السماء تمطر دهبا، ولا الأرض جنة عدن، الغلبة للأقوى والبقاء للأصلح، وكأن قانون الغاب غدا أكثر تقنينا، سنته الاستغلال ولا شيء غير الاستغلال،
اوشك لهيب السيجار على النهاية، وبحركة عصبية، خنق دخانها وقدف بعقبها بعيدا بعيدا...
احس بثقل في جفنيه، غلب عليه التثاؤب، اغمض عينيه ولم يدر إلا وهو يستسلم لنوم عميق...
تأليف: أ. عبدالاله ماهل
الدار البيضاء/المغرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

🌹أطلت كالهلال✍🏻 جاسم الطائي

 ( أطلّت كالهلال ) أطَلَّت كالهلالِ فكانَ عيدُ وقالت : هل أتى فصلٌ جديدُ بخيلٌ أنتَ والدنيا رُدودُ فما لي والهوى قدرٌ عنيدُ وما لي والمدادُ ...