الأحد، 1 نوفمبر 2020

أحمد عيسى..... لص في زمن كورونا

 لص في زمن كورونا

بقلم/ أحمد عيسى

لم يكن "أبوزيد" راضياً عن مهنته، إن كانت السرقة تُعد مهنة، فقد دفعته إلى أتونها ظروف بيئية واجتماعية ومادية عاتية، وكان كثيراً ما يُمنّي النفس بالإقلاع عنها والتوبة منها.

لكنها كانت مجرد أماني تتبدد حين تفرغ حافظته من النقود، أو حين تلوح له دراجة في مدخل بيت، أو أنبوبة غاز في دهليز دار.

بل قد يسيل لعاب "أبوزيد" حين يجد "موتوسيكل" دائراً رهن الانطلاق في غفلة من صاحبه، أو كان هذا "الدَّبَّاب" مُسلسلاً في غياب مالكه أو نومه.

لم تكن آمال "أبوزيد" لتطمح إلى قنص السيارات؛ ذلك لأنه أولاً لا يُتقن قيادة العربات، ولأنه ثانياً كان لا يحب الشراكة في السرقات التي كان يتفرد بها ويتألق فيها.

على حين تفتقر سرقة السيارات إلى فريق عمل متكامل، رصداً وتعييناً، وإعداداً وتخطيطاً، فتنفيذاً وهجوماً، ثم تهريباً وتسليكاً يعقبه مساومة مالك السيارة على فدية باهظة، أو إخفاء معالم الجريمة وإعادة طرحها مطموسةً للبيع، وعندما تتسع مآقي الشرطة فلا بد من اللجوء إلى تفكيك السيارة وبيعها قطعة قطعة!

عادت فكرة التوبة تداعب "أبوزيد" من جديد، لا سيما وقد تخطّف الموتُ بفيروس كورونا أناسيَّ كثيراً من حوله، ولم لا وقد واتته ظروف التوبة ولاحت بشائرها؟

فركاب الحافلات يتباعدون، ومهنة "أبوزيد" تُحب التقارب، وترجو التزاحم، وتتمنى التلاحم، وتتعشق الموالد والمواسم التي لا يُفرِّق فيها بين الذكور والنساء إلا الرؤوس و"المكياج"!

ثم ها هو "أبوزيد" يتجه إلى البيوت متلصصاً فإذا بسكانها أيقاظٌ ليلَ نهار، منهم مَن صار عمله من الدار، ومنهم الذي لزم البيت من دون عمل، ومنهم مَن توسع بالإجازات وأسرف في العطلات، ومنهم الذي قَلَب نهاره ليلاً وليله نهاراً، فحِيل بين "أبوزيد" وبين سرقات البيوت وتسلق المواسير واقتحام النوافذ والشبابيك.

كل هذا الكساد في دنيا السرقات؛ دفع "أبوزيد" إلى التفكير ملياً في توبةٍ يستهلها بعُمرة إن هو عجز عن أداء الحج، فإذا به تأتيه الأخبار متواترةً أن زمن كورونا لا حج فيه ولا عمرة، فيعود طموح "أبوزيد" حسيراً حزيناً لضن الواقع عليه بالتوبة!

ثم يلتمس "أبوزيد" الصلاة في المساجد فإذا بالجوامع مُغلقة، والمساجد والزوايا على عروشها خاوية مؤصدة، فيحتال لا للنشل لكن للوصول إلى مسجد قد خالف التعليمات وفتح بابه خُلْسَةً عن عيون القانون ولواحظ الأوقاف.

يلج "أبوزيد" المسجد مقاوماً نظرات تتفلت منه صوب خزانة الأحذية تارة، وبين حافظات النقود تجسمها جلابيب وخلفيات سراويل المصلين القائمين والراكعين منهم والساجدين تارة أخرى.

وبعد الصلاة..

الإمام (وقد تفرّس وجه "أبوزيد"): غريب أنت أو ضيف؟

"أبوزيد": وهل تعرف كل رواد المسجد؟

الإمام: نعم.. هذا عملي منذ نصف قرن، أُدعى لتناول عقائق معظم المصلين أطفالاً، وولائم اختتانهم صغاراً، وفي شهادات نجاحهم طلاباً، ولدى أفراحهم عِرساناً، وبعضهم تتناوشه يدي غسلاً وتكفيناً ودفناً، فيا باغي الشر أقصر، ويا باغي الخير أقبل!

"أبوزيد": عشتُ حياتي من الظالمين، أسرق الكُحل من العيون.

الإمام: والآن.. جئتَ عائذاً ولائذاً.. أم عدتَ راصداً ومتلفتاً؟

"أبوزيد": ضاقت بي الدنيا بما رحبت، فلا حج ولا عُمرة، ولا جَمَاعة ولا جُمُعة!

الإمام: يا بني، أخلص القصد تصل، ووحد المحبوب تحظَ وتنل.

"أبوزيد": ألمثلي توبة بعد مئات من الغدرات والسرقات؟

الإمام: التواب لا يزال تواباً.. لا يغلق من دونه أبواباً.

"أبوزيد": سرقتُ الشقق والبيوت.. والمنازل والكنائس والمعابد.. حتى مصاحف المساجد؟!

الإمام: أعظم منك جرماً يقبله الله إذا جاءه تائباً.

"أبوزيد": أيوجد من هو أعظم مني جريرة ونشلاً وسرقة وظلماً؟

الإمام: نعم.. السارقون أنواع وصنوف.. ودركات هم بالمئين وربما بالألوف.

"أبوزيد": هل صحيح أن الله يتوب على من تاب ويمنحه الصفح والاقتراب؟

الإمام: نَعم.. الله يفرح بتوبة عبده كفرح أحدِنا بنجاته من موتٍ وهلاك.

"أبوزيد": لكن كيف تكون السرقاتُ دركات؟

الإمام: هل سرقة حافظات ونقود كسرقة مصارف وبنوك؟

"أبوزيد": لا.

الإمام: هل سارقو قطع الحُلي والذهب كسارقي الأعضاء والبَشَر؟

"أبوزيد": لا.

الإمام: هل انتهاب حقائب وبعض أموال كانتهاب بلدان ومقدرات شعوب وأوطانٍ.. أو كانتهاب وَعي واستلاب نفوسٍ واختلاب عقول؟

"أبوزيد": لا.

الإمام: هل قنص حوافز ومرتبات كقنص أفكار وفنون وإبداعات واختراعات؟

"أبوزيد": لا.

الإمام: هل اختلاس صيحات وشعارات كاختلاس ثروات وثورات؟

"أبوزيد": لا.

الإمام: أخطأتَ حين ظننتَ أن قوةً ما تحول بينك وبين الحج والاعتمار أو بين قبول التوبة والاستغفار.

"أبوزيد": كيف يا سيدي ومولاي؟

الإمام: الحج قصدُ قلب، وتوجهُ لُبٍّ وفؤاد، قبل شد رحال وسفر، وطواف وسعي، ووقوف وذبح، وحَلْق ورجْم.

"أبوزيد": والجوامع والمساجد؟

الإمام: الفطن من يرى تراب الأرض طهوراً، ويتخذ من أديمها مُصلّى وسجوداً.

"أبوزيد": والجَماعة والجُمُعة.. والقِبلة والكَعبة؟!

الإمام: شرائع دينٍ مُقدسة في أصولها، متوخاة في فروعها، مصونة بالإجلال، ومرعية بالعلم والعمل والإكبار، لكنها لا تحجب قول الله عز وجل دائم الإشراق: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

🌹أطلت كالهلال✍🏻 جاسم الطائي

 ( أطلّت كالهلال ) أطَلَّت كالهلالِ فكانَ عيدُ وقالت : هل أتى فصلٌ جديدُ بخيلٌ أنتَ والدنيا رُدودُ فما لي والهوى قدرٌ عنيدُ وما لي والمدادُ ...