الاثنين، 25 مارس 2024

🌹بدائع البداية✍🏻 لطفي منصور

 أ.د لطفي منصور

بَدائِعُ الْبَدائِهِ:

هُوَ أدَبٌ سامٍ رَفيعٌ تَنافَسَ فِيهِ الشُّعراءُ، فَأَبْدَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وَقَصّرَ فِيهِ آخَرونَ.

البَدائِهُ جمعُ الْبَديهَةِ. نقولُ: قَالَ بيتًا على البديهَةِ. إرْتَجَلَه دُونَ أنْ يُفَكِّرَ فِيهِ طَويلًا ففاجَأَ المستمعينَ، وهذا لا يقعُ إِلَّا مَعَ الفِحولِ. وَمِنْ ذَلِكَ ما تعَلَّمْناهُ في تاريخِ الأَدَبِ، كَأَبي تمّام حينَ كانَ يمدَحُ المُعْتَصِمَ فقالَ: من الكامل

إقْدامُ عَمْرٍو في سَماحَةِ حاتِمٍ

            في حِلْمِ أَحْنَفَ في ذكاءِ إِياسِ

(عَمْرٍو بن معديكَرب الزّبيدي، حاتم الطّائيُّ، الأحنفُ بنُ قيسٍ التميميُّ، إياسُ بنُ معاويَةَ القاضي الذَّكِيُّ)

وكانَ فيلسوفُ العَرَبِ أبو يَعْقُوبَ الكِنْدِيُّ حاضِرًا فقالَ له: "الأميرُ فَوْقَ ما وَصَفْتَ ما زدْتَ أنْ شَبَّهْتَهُ بِأَجْلافِ العَرَبِ"؟

فَأَطْرَقَ أبوتَمّامٍ بُرْهَةً ثُمَّ قَالَ على البديهَةِ: بالوزنِ نفسِهِ والقافيَةِ.

لا تُنْكِروا ضَرْبي لَهَ مَنْ دونَهِ

            مَثَلًا شَرودًا في النَّدَى والباسِ

فَاللّهُ قَدْ ضَرَبَ الأَقَلّ لِنورِهِ

           مَثَلًا على الْمِشكاةِ وَالنِّبْراسِ

(مَثَلًا شَرودًا: نادرًا وسائِرًا، النَّدَى: الجود، الباس هو البَأْس والقوَّة، حذَفَ الهمزةَ تخفيفًا)

فقالَ الكِنْدِيُّ للمُعْتَصِمِ: اِجْزِهِ أَيُّها الأمير! فَإنَّ عَقْلَهُ يَأْكُلُ جِسْمَهُ، كما يَأْكُلُ السَّيْفُ المُهَنَّدُ غِمْدَهُ.

ومِثْلُهُ وقَعَ مَعَ شاعِرِنا الكبير أبي الطَّيِّبِ المتنَبِّي، حينَ عاتَبَ سيفَ الدولَةِ الحَمَدانِيَّ في قصيدَتِهِ المعروفةِ فقالَ في أحَدِ أبياتِها مُعْتَدًّا بنفسِهِ: من البسيط

الْخَيْلُ واللَّيْلُ وَالْبَيْداءُ تَعْرِفُني

            وَالسَّيْفُ والرُّمْحُ وَالْقِرْطاسُ وَالْقَلَمُ

وكانَ أبو فِراسٍ حاضِرًا فقالَ لَهُ: ماذا أَبْقَيْتَ لِلْأَميرِ؟

فَغَضِبَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ وِرَمَى الشّاعِرَ بِدَواةٍ كانَتْ أمامَهُ، فقالَ المتنَبِّي على البديهَةِ مُرْتَجِلًا: بالوزنِ نَفْسِهِ والقافيَةِ

إِنْ كانَ سَرَّكُمُ ما قَالَ حاسِدُنا

             فَمَا لِجُرْحٍ إذا أَرْضاكُمُ أَلَمُ

فقامَ سيفُ الدَّولَةِ - حسبَ الرِّوايَةِ- وَقَبَّلَ رَأسَهُ.

وَإنَّما أتَيْتُ بهذهِ المقدِّمَةِ لأتحدّثَ عن كتابٍ جَمَعَ فِيهِ مُؤَلِّفُهُ أَلوانًا من هذا الأدَبِ الجميل. هذا الكتاب عُنْوانُهُ "بدائعُ البَدائِهِ"، لِعَلِيِّ بنِ ظافِرٍ الأَزْدِيِّ (ت٦١٣هج) وزيرِ المَلِكِ الأشْرَفِ أحِدِ مُلوكِ بني أَيّوبَ

َفي مصر. وهو كتابٌ يتيمٌ في موضوعِهِ، وما كُتِبَ بعدَه عالَةٌ عليه. 

وأذْكُرُ هنا كتابَ "لَمْحُ السِّحْرِ من روحِ الشِّعْرِ لِلأديب الكبير المعروفِ بابنِ شُهَيْدٍ الأندلُسِيِّ (ت٧٥٠هج) نقلَ كثيرًا من كتاب "بدائع البدائه" وَضَمَّهُ إلى كتابِهِ مع اعترافِهِ بهذا، وقد أثْنَى عَلَى هذا "الجانير "الأدبي الذي قَلَّ مَنْ يعرِفُهُ.

وَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ الواجِبِ أَنْ أنْقُلَ لَكُم بَعْضًا من هَذِهِ البدائعِ التي لا تقتصِرُ على الشِّعْرِ فقط، بل تجاوزَتْهُ إلَى النَّثْرِ أيضًا.

البدائِهُ في الشِّعْرِ تأتي في وصفِ شَيْءٍ عَلَى البديهَةِ شِعْرًا، أو إجازَةِ شَطْرٍ أَوْ بيتٍ أو أكثَرَ من الشِّعْرِ على البديهَةِ.

فمن ذلك: تناوَلَ بَعْضُ الشُّعَراءِ نَرْجِسَةً، فَرَكَّبَها في وَرْدَةٍ، وكانَ بِجانِبِهِ صَديقٌ شاعِرٌ أيْضًا، فتراهنا على مِائَةِ دِرْهَمٍ لِمَنْ يَسْبِقُ في وصفِها، ووضَعا الرِّهانَ عِنْدَ صديقٍ ثالثٍ له عِلْمٌ في الشِّعْرِ. حاوَلَ الشّاعِرانِ الوَصْفَ فَأُرْتِجَ عليهما. 

(أُرْتِجَ: أُغْلِقَ، من الرِّياحُ وهو ما يُغْلَقُ بِهِ الباب. وهنا أُغْلِقَ الفِكْرُ)

فبينما هما يبْذُلانِ جُهْدَهُما دُونَ طائلٍ دَخَل الزَّهيرِيُّ وكانَ شاعِرًا مَطْبوعًا أُمِّيًّا لا يقْرَأُ ولا يَكتُبُ فقالَ على البديهَةِ: من السّريعِ

ما لِلْأَديبَيْنِ قَدْ أَعْيَتْهُما

             مَايحَةٌ مِنْ مُلَحِ الْجَنَّهْ

نَرْجِسَةٌ في وَرْدَةٍ رُكِّبَتْ

          كَمُقْلَةًٍ تَنْظُرُ في وَجْنَهْ

( الوَجْنَةِ إحدى الوَجْنتينِ في الوَجْهِ)

ومِنْهُ أنَّ المعتَمِدَ بنَ عَبّاد أميرَ إشْبيليةَ كانَ بطيءَ البديهَةِ، خَرَجَ مرَّةً مع وزيره ابنِ عبّادٍ الشّاعِرِ المعروفِ، فَوَقَفا عِنْدَ نهرً راقَهُما منظَرُهُ، وَتَمَوُّجُ مائِهِ. فقالَ أجِزْ أيُّها الأميرُ: من الرَّمَل

صَنَعَ الرِّيحُ مِنَ الماءِ زَرَدْ

ولمّا كانَتْ بديهةُ المعتمدِ بطيئَةً تَلَكَّأَ في الْقَوْلِ إذا بجاريَةٍ كانت بالقُرْبِ منهما تسمَعُ ما يقولانِ، فَإِذَا بِهَا تُسْعِفُهُ وتقول:

أَيُّ دِرْعٍ لِقِتالٍ لَوْ بَرَدْ

فَأعجبَ ذَلِكَ الأمير، وكانَتْ بارِعَةَ الجمال، فخطبَها وتزَوّجَها. وهيَ الرُّمكيَّةُ الشّاعرَةُ الكاتبةُ بالعربيَّةِ والإسبانِيّةِ، من أشهرِ نساءِ الأندلس.

وهذا قُلٌّ من كُثْرٍ. مَنْ يُرِدِ الاستزادَةَ عليْهِ بالمكتباتِ الجامعيَّةِ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

🌹أطلت كالهلال✍🏻 جاسم الطائي

 ( أطلّت كالهلال ) أطَلَّت كالهلالِ فكانَ عيدُ وقالت : هل أتى فصلٌ جديدُ بخيلٌ أنتَ والدنيا رُدودُ فما لي والهوى قدرٌ عنيدُ وما لي والمدادُ ...