الاثنين، 3 يونيو 2024

🌹قصة قصيرة ✍🏻علي البدر

 "وَلَنا مِنَ الطَّيرِ المُغَرِّدِ عِبْرَةٌ"

قصة قصيرة     علي البدر


     عُقودٌ مَضتْ. حوادثُ مرَّت ولم تَعُدْ جُزءً من الذاكرة. حدثٌ مهمٌ يأبى أن يزولَ، عندما قررتُ تطويرَ لُغَتي العربية اعتمادًا على إعرابِ آياتِ القرآن الكريم. حَصيرةٌ من الخوصِ " سعفُ النخيل" ومَشربَةٌ فَخّاريةٌ، تُنكةٌ حسب اللفظ البغدادي أو َشرَبَةٌ بلغةِ أهلِ الجنوب، وبعضُ كتبِ التفسير وأخرى مختصة بإعرابِ الآيات القرآنية.


     لحظاتُ اطمئنانٍ تَسري في أعماقي وعِشقٌ يزدادُ للغتي العربية وأنا أنحني على كتابٍ هو إعجازٌ ربانيٌّ. كلما نتوغلُ في فهمِ أعماقه، نزدادُ فخرًا واطمئنانًا وفرحةً وإيمانًا. 


     تغريدٌ أجبرني على الصمت. قفزاتُ طيرٍ زاهي الألوان شبيهٍ بالهدهد، يهدأ لحظةً ثمَّ يميلُ برقبته جانبًا ويحدِّقُ بعينٍ واحِدة. يَفتحُ ويغلق منقارَهُ فيصدرُ أصواتًا رائعةً شدَّتني إليه. يا إلهي أهو تناغمٌ مع صوتي الهادئ الخاشِع وأنا أقرأ القرآنَ، أم هديةٌ من ربّي وأنا تحتَ خيمتهِ آمنًا مستقرًا؟


     بقايا فِتاتِ خبزٍ نثرتُها قرب الحَصير. مفاجأةٌ أذهلتني. نزلَ بكلِّ أمانٍ يلتقطُ ما نثرتُهُ. توقف ورفعَ منقارَهُ اتِّجاهي وبدا وكأنه يُحَييني ويطلبُ مزيدًا من الأمان. تَوَطَّدَتْ علاقتُنا وباتَ يقفُ على كتفي ويدُسُّ منقارَهُ وسطِ شَعري، وكنتُ أرى العاطفةَ والشوقَ في عُمقِ عَينيه.


     لابدَّ أن يعيشَ معي. قفصٌ جديدٌ فُرِشَتْ أرضيتُهُ مع ماءٍ وقطعٍ من التّين والتمرِ والخيار، فبدا كَبَيتِ راحةٍ وأمانٍ ربَّما يتمناهُ أيُّ طائرٍ يحومُ في السماء. نثرتُ له بعضَ الحبِّ فلم ينزل. يا إلهي قد يَحُنُّ لفِتاةِ الخبزِ التي وطَّدَت صداقتي به، لكنه بقيَ مُتسمرًا بعمقِ الشجرة وبُّتُّ بالكاد أراه. 


    قرأتُ القرآنَ وأنا أُغَيِّرُ نبراتِ صوتي لأجعلَها أكثرَ أمانًا، ولكن دون جدوى. رفعتُ يديَّ ثم مددتُ ذراعي، علَّهُ يقفُ وسطَ راحَتي التي تَعوَّدَ عليها لأكثر من أسبوع، لكنه بقيَ متسمرًا فشعرتُ بأنَّ أعماقي تصرخُ. ولأولِ مرةٍ أشعر بضَعفٍ وكأنني لا شيء أمامهُ. تعالَ ولا تَخذُلني. بيتٌ جديدٌ مفروشٌ وماءٌ مُحَلّى بالعسلِ وقطعُ فواكهٍ لذيذة. تُغرِّدُ لي كلَّ صباحٍ وأسمَعُكَ تغريدا تي كلَّ ليلةٍ، لِتنامَ هادئً حتى الفَّجر. 


     أصواتٌ غريبةٌ لم أسمَعْها منه وكأنه يَنفُرُ مِنّي بنبراتِ عَتَبٍ وألم. دارَ حَولي عِدَةَ مراتٍ، ثُمَّ رفرفَ بِجناحَيهِ فوقَ رأسي وابتعدَ قليلًا ثم رجعَ وحطَّ في مكانه. نظرَ نحو الأسفلِ وبَدَتْ رقبتُهُ مُلتَويَةً. فتحَ منقارَهُ وأغلقَه عِدَّةَ مرّاتٍ وبدا وكأنَّ شيئًا ما قد أفقدَهُ القُدرَةَ على التغريد. رَفرفَ بجناحيهِ وحَلَّقَ عاليًا وغادرَ إلى الأبد. يدٌ رقيقةٌ رَبَتَتْ على كَتفي وصوتٌ بِنَبرَةِ إصرارٍ مَمْزوجٍ بألم. ليستْ بالخُبْزِ وحدهُ يحيَا الإنسان. هذا ما تعلمناه مِنكَ يا أبي. 


علي البدر   Ali Albadr

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

🌹أطلت كالهلال✍🏻 جاسم الطائي

 ( أطلّت كالهلال ) أطَلَّت كالهلالِ فكانَ عيدُ وقالت : هل أتى فصلٌ جديدُ بخيلٌ أنتَ والدنيا رُدودُ فما لي والهوى قدرٌ عنيدُ وما لي والمدادُ ...