قراءة نقدية في الدلالات الرمزية والتعبيرية في رسومات الفنان التشكيلي( نبيل العجرش )
في البدأ يجب ان يحيط المتلقي ولو بايجاز بعدد من التعريفات ومنها الدلالة والتي تعني تحديد المعنى الذي يحمله الرمز مفردا بنفسه او ما يؤول اليه المعنى عند تركيبه وان التأويل يحتاج الى عمليه فكرية اكثر تعقيدا من الادراك الحسي والانطباعات الذاتيه والحالات الوجدانية لكشف مكنونات الابداع الفني المضمر باطنا .
واما الرمز: هو شكل يدل على شئ ما له وجود قائم بذاته يمثله ويحل محله وهو احد صور التمثيل غير المباشر وهو احد وسائل التعبير بل وهو صورة حيه لبعد اخر وهو اللغة الجمالية لايصال الفكرة يعمل جنبا الى جنب مع اللغة العلمية واللغة التكنولوجية كما يقول الدكتور الامريكي ( وليامز موريس ) وهو نشاط انساني ولغة تخاطب فكري متقدمة وان الرمزية في الفن التشكيلي هي تخطي الواقع وبلوغ معاني اخرى خفيه . رغم قدم مصطلح الرمزية ( منذ العام 1886) وكثرت استعمالاته في الفنون التشكيلية وسعة انتشاره الا انه يبدو ذات معالم انحسارية مقيدة لصعوبة فهم ابعاده وقلة المبدعين فيه وكذلك ضعف حيز الذين يمتلكون القدرة على استقراءه من المتلقين .حيث اختلف المفكرون والفلاسفة في وضع تعريف محدد ووافي فمنهم من قال بوجود علاقة بين الرمز والشيئ الدال عليه كالمشابهة والمجاورة والمقاربة ومنهم من ذهب الى ابعد من ذلك وقال ليس بالضرورة وجود علاقة مطلقا فيكون الرمز كتابات وثوريات متوالية هدفها استثارة بعض حالات الوعي فتثير انفعالات وخيالات خصبة يفهمهما المتلقي كل حسب مكنوناته الفكرية والعلميه والعاطفية وغيرها.
ومورد الحديث هنا في محل النقد هي بعض من رسومات الفنان التشكيلي العراقي ابن مملكة القصب والبردي والحضارة السومرية ( المهندس نبيل العجرش ) الذي يمتلك من الخيالات الخصبة ذات العمق الفكري والفلسفي والتي تذهب به للتلاعب بخيالات المتلقي من خلال تسخيره ادوات الابداع التي يمتلكها وملكاته الفنيه وعمقه الثقافي والعلمي في ادارة ريشته المعطاء ليبرز مفهوم الرمزية على اوج وجه في الفضاء المعرفي التشكيلي . فبدلاً من ان تتسم رسماته بسطحية المعاني والتكرار والاسهاب الممل فانه يدفع بالمتلقي الى خيالات بعيدة الافق ليبرز الاهداف السامية حيث انه لطالما يغلف ظاهر لوحاته بمعاني محدودة فتسير ريشته بخطى ثابتة نحو الهدف والفكرة ويبرزها للفهم العميق الذي اضمره ضمنا فيرسم خطوطه بايحاءات مبهرة تهدف الى معاني ثره متعددة الوجوه ويبتعد عن النمطية الممله التي اعتادها اغلب اقرانه مستعملا اشارات الوسيط الثالث( الرمز ) كأجمل اداة مستخدماً امكانياتة الرائعة التي تدل على تراكمات علمية وفنية انبرى لها العجرش وجسدها كأجمل رموز وايحاءات ودلالات والتي تعتبر ايقونة التميز والابداع والسمة الواضحة في نجاح الفنان وشهادة التميز في خلق ثقافة انفتاحية في العالم المعرفي الموضوعي مبتعداً عن العبثية في الاسهاب في سرد الرموز فهو رغم ضبابية معظم لوحاته للمتلقي البسيط الا انها تبدو تحمل هدفاً ومغزىً واضحاً لاصحاب التخصص.
فمن ادواته الرمزية والوسائط الاشارية في عالم الايحاءات المستعمله خروجه عن المألوف في استخدام عدد من الصور الجماليه وتوظيفهِ لها لاهداف سامية منافية المعنى الظاهري ومنها اليد والطير والاثداء, والحقائب وغيرها من الرمزيات التي تحمل مدلولات حسية عميقة بالغة وعالم من القيم الروحية وصور جمالية واسعة الافق .ان المتلقي السطحي غير واسع الافق والخيال يقرأ ظاهراً بعض استعارات العجرش الرمزية على انها مخالفة شرعية واجتماعية وانها نوع من الجرأة وكسر لقيود المألوف وابتعاد عن الاعراف والقيم مثل الاثداء ورسومات الاجساد نصف العارية الا ان المتخصص الموغل في عالم الدلالات والرمزيات يقرأ نبل ما بين سطور ريشة العجرش والفكرة الاصلية التي اراد ايصالها فكان ابداعه ينطلق من عقدة كسر الخجل البيئي في استعمال وتسخير ظاهر الممنوع الديني والعرفي وصولاً للهدف العميق الذي هو اسمى من شيئية الرمز رغم انحدار الرسام من مجتمع ديني عرفي محافظ وهذا ما نلمسه في بعض لوحاته ذات الرمزية الدينية والاجتماعية ليبقى المفهوم الجمالي والايدلوجي في رسوماته هو الصبغة الظاهرة مخالفا فكريا للظاهرة الافلاطونية (في ان الشي بذاته) .ان الرمزية في رسمات العجرش مبنية على ممازجة بين عالم حسي ظاهري وعالم دفين من الاسرار النبيلة المقدسة والهادفة قد جسدها بشكل فني بل انها عبارة عن فقه فني متكامل لا يتمكن الكثيرون من قراءة ابعاده سوى بعض المتخصصون .اما ما يجمل رسومات العجرش وهو البعد البصري في انتقاء الالوان وتدرجاتها وتوظيفها بشكل متقن لايصال رمزية الفكرة ليعزف بريشتة سمفونية متعددة ابعاد الجمال والاتقان تنساب الى عين المتلقي وبالتالي فكره بعذوبه ، حيث تتحول الالوان عنده الى ظاهرة جذب وممازجة عقلانية وابتكار اصطلاحي فني سهل ممتنع تمكن المتلقي من قراءة الفكرة وتتجرد من القوانين البصرية وتبتعد عن كونها مادة تشكيلية استهلاكية بل تكون مادة تعبيرية عن قيم ودلالات ذات طبيعة رمزية وانعكاس لفكرة ما مضمرة بين طيات خيال واسع .
لقد وظف العجرش امكاناتة العلمية والثقافية في ايصال افكاره من خلال ادواتة الابداعية فكان حقاً مهندساً بارعاً مبدعاً في رسم الفكرة وأجاد في تسخير الالوان بل ومما زاد لوحاته جماليه واناقة هو انه يؤمن بان الرمزية تكون منقوصة اذا كانت تعتمد على بُعد الاشكال وحسب وانما ذهب الى ابعد من ذلك فوظف بُعد الالوان لتنطلق منها الجمالية الرمزية اللونية والتي نادراً ما نجد الا القلة من المبدعين في هذا المضمار لينفرد مع عدد ثلة قليلة من الفنانين في ابراز الرمزيات الوظيفية والنوعية واللتان هما سمتان لمن يمتلكهما ليغرد بريشته خارج اسوار المألوف مبتعداً عن نمطية المعاني السائدة والمعهودة بالرغم من درجات التعقيد التي تحيط بكنه مدلولاته .
لقد تطرق العجرش في رسماته الى العديد من المواضيع التي تحاكي الواقع الحاضر والماضي وربط بينهما باسلوب فني رمزي فتراه تارة ينبري باسلوب حداثي في المزج بين الوان المدارس التشكيلية الرمزية والتكعيبية والتراجيدية والبغدادية فمثلا انفرد بعمل حبكة درامية مثيرة للجدل من خلال عمل تداخل فني بين البغدادية والتكعيبية والتراجيدية مع الاحتفاظ الواضح لهيكل المدرسة الرمزية كما في اللوحتين(10,11) وجسد بعضا من التاريخ السومري ليحاكي حضارة الاهوار المنحدرة من الارث السومري ممازجا الحرف العربي مع الحرف السومري ليرسم وبثبات حقيقة عقيدته التاريخية في انحدار الحروف العربية من الارث الحضاري السومري كما في اللوحات (8,9,10) وتارة يذهب بخياله الابداعي لاحداث التفاتة ابداعية يكاد ينفرد بها مع ثلة قليلة من الفنانين الحداثيين بالربط بين المدرسة التجريدية والرمزية باسلوب جمالي ملفت للمتلقي , ولا تكاد معظم لوحاته تخلو من بارقة الامل والسمو والنقاء والروحانية من خلال استخدامه لرمزية الطير واللون الابيض والازرق واللاتي هم من دلالات الامل كما وانه لم يترك واقع الانسان العربي عموما فضلا عن الفرد العراقي خصوصا بعيدا عن متناول ريشته وما يمر به من نكبات وتخبطات سياسية واجتماعية ليكون منطلقا من عقدة الالم المقدس اللصيق للبيئة العربية ليسخر ادواة ريشته لطرح الكثير من القضايا الانسانية والسياسية والمجتمعية ووخصص للجنبة العاطفية مجال واسع من لوحاته (1,7).
لم تبقى دراسته الاكاديمية بمنأى عن ممازجتها مع ميوله الفنيه فراح ممازجا بعذوبة بين المعادلات الهندسية ودافع الحياة في عدد من لوحاته ( لوحة 4) التي عبر من خلالها بثبوت التيار مع الفولتية بقياسات معادلاتية رياضية تحليلية لينطلق الى بؤرة الوجود في تداخل بياني فني في عالم السيطرة على ادواة الانسان والتي عبر عنها برمزية جسد المرأة الحر والتي لطالما كانت مثار جدل, وتطرق لموضوعة الاتزان البشري في لوحته (6 ) التي تبدا من معادلة التيار والفولتية في المخطط ومعادلة الاهتزاز والاتزان في الهندسة الميكانيكية حيث عبر عنها بجسد المراة المتهالك كاتزان بشري رغم هوس العين واحزانها والالم حتى النخاع والامل النابع من تيبس غصن الشجرة وانطفاء الامنيات تعبر عنها الشمعة والتي هي الرمزية الازلية منذ نشوء الانسانية .
ان المتمعن بولع وفهم عميق في جماليات رسومات العجرش يكاد يقرا انحداره البيئي الديني وعمق ثقافته بشتى تفرعاتها من خلال طروحات رمزياته فمثلا في احدى لوحاته (3) اخذ يربط بين قضية الامام الحسين كرمز ديني وسمو الاهداف وشهادته ورحلة الاربعين لمواليه واتباعه ومعاناة المسير التي عكستها رمزية التيبسات والتشققات في قشرة الارض واثر الاقدام الدال على مدى عمق تعلق الاتباع بالمتبوع والاثر بالمؤثر وتجذر اهدافه الصادقة فيهم والسعي رغم الصعاب لملاقاة المعشوق , ولم يهمل بطريقه الدمعة المرافقة للقضية السامية عبر التاريخ فجسدها جنبا الى جنب مع الهدف الباقي عبر التاريخ بنجمة لامعة تبعث بريقها عبر الاجيال لتنير طريق الاحرار . وكذلك برزت ثقافته التاريخية والدينية في لوحته (2) ليتطرق للعمق الثقافي العقائدي الراسخ باسلوب رمزي متقن وشيق للربط بين قضية الامام الحسين ع واخيه ابو الفضل العباس ع وقضية السيد المسيح ع والتي كانت ولازالت قضية الاصلاح والاعتدال السامية الداعية لتحرير الانسان من الصنمية والعبودية الا لله والوقوف بوجه الطغاة وان كلفت الانسان حياته , مجسدا برمزيات الاصبع والكفوف وخشبة الصلب والناقوس الذي يبلغ الرسالة في ان صوت الحق هو الباقي وان تجبر الطغاة وعبر الاجيال ..
واخيرا ان القوة الكامنة في ابداع ريشة العجرش تكمن في عمق مديات حبه لهذا الفن النقي وتراكمات تجاربه
الفنيه ومديات امكانياته الفنية والعلمية والثقافية فكان حقا مركزا للابداع والتميز ...
بقلمي
محمد نعمه اللامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق