.. في قضايا الادب و النقد ..
.. مفهوم الأسلوبية إنطلاقا من البديع ..
إن أول ما ينبغي أن نقرره صدر هذه المقالة ، أن أول من أسس علم البديع هو ابو العباس عبد الله المعتز المتوفي ( 861 - 908 ) و ذلك سنة للهجرة حين ألف كتابه ( البديع ) غير أن تأسيسه لم يقم على خلفية نظرية عميقة ، وانما قام عمله ، بحكم أنه رائد في بابه ، على عرض مجموعة من النصوص بعد أن يقدم لكل ضرب بلاغي بتعريف بسيط ، و في بعض الاطوار لا يأتي بأي تعريف إطلاقا كما جاء ذلك حين ذكر الاستعارة فانتقل الى الاستشهاد بالنصوص القرأنية و الشعرية دون أي تعريف أو تمهيد .
ذلك ، وان حاولنا ان نبحث عن تعريف نظري لمفهوم البديع الذي يعد عبد الله بن المعتز هو أول من ألف فيه تأليفا منهجيا كتابه الجميل ( البديع ) الذي ذكر فيه ثمانية عشرة ضربا من ضروب البديع ، بعد أن جاء اخرون فذكروا من أضرب البديع ثلاثين كما جاء ذلك قدامة بن جعفر المتوفي ببغداد سنة سبع و ثلاثين وثلاث مائة للهجرة ، ولكن باصطلاحات للبديع لم تكن استقرت في الاستعمال . ثم ذكر ابو هلال العسكري ( ت بعد 1005 م ) من أضربه سبعة و ثلاثين ، و مثله ابن رشيق المسلي الميلاد القيرواني الدار ( 390-456 ) . الى ان جاء صفي الدين الحلي ( 1277 - 1349 م) فكلفا كلفا شديدا بالبديع إذ بلغ بأضربه زهاء مائة و أربعين ضربا ..
و من عجب أن يعرف السكاكي البيان انطلاقا من تعريف الرماني ، ثم يسكت سكوتا قبيحا عن تعريف البديع فلا يقول عنه شيئا . و قد عرفه الشيخ أحمد مصطفى المراغي فقال : هو علم تعرف به الوجوه و المزايا التي تكسب الكلام حسنا و قبولا بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال التي يورد فيها ، و قد عرفه المعجم الوسيط بقوله : ( و البديع علم يعرف به وجوه تحسين الكلام ، و يلاحظ ان تعريف المراغي ، و هو الاقدم زمانا متضمن في تعريف المعجم الوسيط المتأخر زمانا ، لكن المعجم الوسيط أخذه حرفيا من منجد لويس معلوف الذي يعرف البديع على انه علم تعرف به وجوه تحسين الكلام ، لان المنجد أقدم زمانا في الظهور من المعجم الوسيط في حين ان ابن منظور نقل مقولة الجوهري التي لا تعني شيئا كثيرا ، وهي : ( و ابدع الشاعر : جاء بالبديع ) . اذ لبست الغاية أن ياتي الشاعر بالبديع الذي ليس وقفا على الشعر وحده على كل حال ، ولكن تقديم تعريف نظري ، أو حتى معجمي ، لمفهوم البديع نفسه .
و الحق ان كثيرا من شارحي النصوص الادبية المتاخرين كانوا عاجوا على البديع فذكروا من اضربه طائفة ، دون ان ينبه أحد الى تعريفه ، بل كانوا لا يزالون يوردون منه انواعا مختلفة يمثلون لها من بعض النصوص الادبية ، اغلبها من الشعر دون التفكير في التأسيس لتعريفه .
و إذا كانت التعريفات القليلة التي جئنا عليها تجمع، او تكاد ، على ان الغاية على اصطناع مفهوم ( البديع ) هي معرفة الكيفية التي تقضي الى تنميق الاسلوب ، و تحلية الكلام بما يحسنه و يجمله : فان ذلك لا يعني ، لدي نهاية الأمر الا بحثا في كتابة الاسلوب الذي يخاطب به المتلقي ، او ما يمكن ان يطلق عليه ( طريقة الأسلبة ) و بعبارة ادق معرفة العناصر التي تكون الاسلوب ، و هي النظرية التي امست تعرف تحت مصطلح ( الاسلوبية ، la stylistique ) ، في اللسانيات .
و ببعض ذلك تسلل البديع، شيئا فشيئا ، من حقل البلاغة فامسى حقلا من حقول اللسانيات العامة ؛ اذ كانت الغاية من ذلك هي دراسة الأثار المترتبة عن اصطناع محسنات كلامية في الاسلوب الذي يختاره اديب من الادباء ، بتصريف الكلام من شأن الى شأن ، و من وجه الى وجه ، بتحليته بعناصر شكليه تنمقه و تؤنقه ، بتعويمه في تغيرات تنهض على اللعب باللغة بكل أضرب اللعب بها . فقوله تعالى : ( و يوم تقوم الساعة ، يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ) يقوم على تحلية الاية بلفظين تامين وردا في اية واحدة : احدهما ، و هو الاول ، يدل على يوم القيامة و لا علاقة له بالساعة الزمنية الدنيوية : في حين ان احدهما الاخر يدل على المعنى الزمني الدنيوي الذي يعيشه الناس جميعا . وجمالية هذا النظم الاسلوبي تمثل في القرن بين لفظين اثنين تامين : احدهما يعني معنى بعينه، و احدهما الاخر يعني معنى اخر لا يمت الى الاول بسبب.
و لذلك عرف شارل بالي الاسلوبية على انها هي دراسة مظاهر التغيير للغة منتظمة من حيث المضمون الوجداني : اي انها تجسيد فعل الحساسية بواسطة اللغة ، و اثر افعال اللغة في الحساسية . فالاسلوبية هي اصطناع مجموعة من الفعاليات الاسلوبية للغة من اللغات لتجميل نسجها ، و امتاع المتلقي به كما يمتع الموسيقار اذن سامعيه بانغام الموسيقى ، و ليس البديع في منظورنا الا ذلك ، او شيئا من ذلك .
د. رضا سلام التبسي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق