أ.د. لطفي منصور
تفسيرُ الْقُرْآنِ بِالْعَرَبِيَّةِ:
انْبَثَقَتْ في النِّصْفِ الثّاني مِنَ الْقَرْنِ الأَوَّلِ الْهِجْرِي ثَلاثَةُ عُلومٍ عِنْدَ الْعَرَبِ هٍيَ عِلْمُ التَّفْسِيرِ الْقُرْآنِيِّ، وَعِلْمُ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّريفِ، وَعِلْمُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَالْمَغازي. هَذِهِ العُلُومُ كَانَتْ في الْبِدايَةِ مُتَّحِدَةً ، وّلَمْ تَكُنْ مُنْفَصِلَةً. أَعْنِي أنَّ الْعالِمَ كانَ يُحَدِّثُ بِها جَميعًا، وَأَخَذَ كُلُّ عِلْمٍ يَتَبَلْوَرُ حَتَّى اسْتَقَلَّتْ كُلُّها في مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثّاني الْهِجْرِي.
لا يَهُمُّنِيِ في هَذِهِ الْكَلِمَةِ سِوَى عِلْمِ التَّفْسيرِ نَشْأَتُهُ وَتَطَوُّرُهُ، مَعَ أَنَّ لي في الْحَديثِ والسِّيرَةِ صَوْلاتٍ وَجَوْلاتٍ، فَأُطْروحَتِي لِنَيْلِ الدُّكْتُوراة كَتَبْتُها في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَأُطٍروحَتي للماجستير في الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّريف.
مَدارِسُ عٍلْمِ التَّفسير ثَلاثٌ هِيَ:
- التَّفْسيرُ بِالْمَأْثور: وَهوَ التَّفْسيرُ الَّذِي وَصَلَنا عَنِ النَّبِيِّ وَأَصْحابِه عَنْ طّريق الرِّوايَةِ، أَيْ الأحاديثُ التي رُفِعَتٍ الى النَّبٍيِّ، أوْ إلى أَحَدِ أَصْحابِهِ، وَرَواها ثِقاتٌ وَعُدولٌ. وَالرِّوايَةُ أوْجَبَتْ وَضْعَ عِلْمٍ جَدِيدٍ، انْفَرَدَتْ بِهِ الْأُمَّةُ الْإسْلامِيَّةُ عَنْ سائِرِ الْأُمَمِ في الْعالَمِ. هذا الْعِلْمُ هُوَ عِلْمُ الْجَرْحِ والتَّعْديلِ أَيْ عِلْمُ الرِّجالِ ، وَفيهِ مُؤَلَّفاتٌ كَثِيرَةٌ.
وَأَهَمُّ تَفْسيرٍ بِالْمَأْثُور هُوَ “جامِعُ الْبَيانِ عَنْ تَأْويلِ آيِ الْقُرْآنِ” لِمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ (ت ٣١٠ هج)، طُبِعَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ مُجَلَّدًا، وطريقَتُهُ في التَّفسير أنَّهُ في الْمَسْأَلَةِ يَذْكُرُ أقْوالَ الْمُفَسِّرينَ مَنَ الصَّحابَةِ أوِ التّابِعينَ ثُمَّ يَذْكُرُ أَرْجَحَ الْأَقْوالِ وَرَأْيَهُ أَيْضًا، وَهُوَ أَعْظَمُ تَفْسيرٍ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ.
- التَّفْسيرُ بِالرَّأيِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: هَذِهِ الْمَدْرَسَةُ وَضَعَتِ الرِّوايَةَ جانِبًا، وَفَسَّرَتِ الْقُرْآنَ بِكَلامِ الْعَرَبِ وَشِعْرِهِمْ. اِسْتِنادًا عَلَى الآيَةِ “بلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ” والآيَةِ “إنّا أَنْزَلْناهْ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقٍلُونَ” أَيْ لِتَعْقِلوا أوْ لِتَفْهَمُوا مُضَمَّنَهُ.
الْمَقْصودُ بِالرَّأْيِ هُوَ الاجْتِهادُ، وَهَذا يَتَطَلَّبُ مَعْرِفَةً أساسِيَّةً واسِعَةً بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَواعِدِها، وَأَساليبِها في التَّعْبيرِ، وَمِعْرِفَةِ النّاسِخِ والْمَنْسوخ، وَأسْبابِ النُّزول، وَأَحْكامِ الشَّريعَةِ الْإسْلامِيَّةِ.
وَعَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا وَرِعًا، لا زَيْغَ عِنْدَهُ وَلا هَوًى لِمُعْتَقَدٍ يَدْعُو لَهُ، أوْ فِرْقَةِ يَنْضَمُّ إلَيْها. وَخَيْرُ تَفْسيرٍ عِنْدَنا هُوَ “نَثْرُ الدُّرِّ” لِجَلالِ الدّينِ السُّيُوطي (ت ٩١١ هج)، وَقَدِ اخْتُصِرَ هذا التَّفْسير بِتَفْسيرٍ مُبَسَّطٍ هو تَفْسيرُ “الْجلالَينِ” ، وهو من وَضْعِ جَلال الدِّينِ الْمحَلِّي (ت ٨٦٤ هج) وَجَلالِ الدِّين السُّيوطي. وَقَدْ أَكْمَلَ السُّيوطي التَّفْسيرَ بَعْدَ وَفاةِ الْمَحَلِّي.
- تَفاسيرُ الْفِرَقِ الإسْلامِيَّةِ:
هذه التَّفاسيرُ تَأتي بِالْمَرْتَبَةِ الثالِثَةِ، وَقَدْ اهتَمَّ فيها المُفَسِّرون بِإخْلاصِهِمْ إلَى مُعْتَقَداتِهِمْ ، وَعَلَى الْقارِئِ أنْ يَتَدَبَّرَ ما يَقْرَأُ.
وَأَهَمُّ هذه التَّفاسيرِ تَفْسيرُ “الْكَشّافُ عَنْ غَوامضِ التَّنْزيل” لمَحْمود الزَّمَخْشَري (ت ٥٣٨ هج) وهو تَفْسيرُ الْمُعْتَزِلَةِ، أهْلُ الْعَدْلٍ والتَّوْحيدِ، قالوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ ، وَقاموا بِتَعْطيلِ صِفاتِ اللَّهِ، وَغَيْرِها مِنَ الْمُعْتَقَداتِ الَّتِي خالَفُوا فيها السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ، وَكانَ الخليفَةُ الْمَأْمُونَ يَرى رَأْيَهُم.
وَيُعَدُّ تَفْسِيرُ الزَّمَخْشَريِّ أَعْظَمَ التَّفاسيرِ من ناحِيَةِ الْعَرَبِيَّةِ والبلاغَةِ وَالْإعْجازِ إطْلاقًا، فَمَنْ أرادَ الْعَرَبِيَّةَ عليهِ بتَفْسيرِ الزَّمَخْشَرِي، وَلَنْ أنْسَ قاموس الزَّمَخْشَري “أَساسُ الْبَلاغَةِ” الْمُكَمِّل لِتَفْسيرِهِ، وهوَ مُعْجَمٌ لِلبلاغَةِ العربيَّةِ واسْتِعاراتِها وَإعْجازِها، كما أُذَكِّرُكُم بَكتابِ “الْمُفَصَّلُ في النَّحْو” لِلزَّمَخْشَري وشَرْحِ المُفصَّل لِغَيْرهِ.
وَهُناكَ التَّفْسيرُ الصُّوفِيُّ وَأَشهرُهُ “لطائفُ الإشارات لِأبي القاسم الْقُشَيْرِي (ت ٤٦٥ هج).
وَتَعَدَّدَتْ التَّفاسير وَتَنَوَّعَتْ، ظَهَرَتِ التَّفاسيرُ الْحَديثَةُ، وكُلُّها عالَةَ عَلَى تَفاسيرِ الأجداد.
إلَيْكُمْ نَموذَجٌ لٍتَفْسيرِ الْقُرْآنِ بالْعَرَبِيَّةِ اقتَبَسْتُهُ مِنْ كِتابِ “مَعاني الْقُرْآنِ” لِإبْراهيمَ ابْنِ السَّرِيِّ الْمَعْروفِ بِالزّّجّاجِ (ت ٣١١ هج)
اخْتَرْتُ مَطْلَعَ سُورَة الْإسْراء:
قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - “سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ”:
سُبْحانَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، الْمَعْنَى: أُسَبِّحُ اللَّهَ تَسْبيحًا. مَعْنَى سُبْحانَ اللَّهِ في اللُّغَةِ: تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ السُّوءِ. وَكَذَلِكَ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَيْ رًُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ مِثْلُهُ)
وَقَوْلُهُ: “أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا”. مَعْناهُ سَيَّرَ عَبْدَهُ، يُقالُ: أَسْرَيْتُ وَسَرَيْتُ إذا سِرْتَ لَيْلًا. وَقَدْ جاءَتِ اللُّغَتانِ في الْقُرْآنِ ، قالَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى: “وَاللَّيْلِ إذا يَسْرِ” هذا مِنْ سَرَيْتُ، وَمَعْنَى يَسْرِي يَمْضِي.
أَسْرَى اللَّهُ سُبْحانَهُ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَهُوَ مَكَّةُ، وَالْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ، فَأَسْرَى اللَّهُ بِهِ في لَيْلَةٍ واحِدَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مِنْ مَكَّةَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ - جَلَّ وَعَزَّ - “إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ”. أَجْرَى اللَّهُ حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الْأنْهارَ (الْأُردُنَّ، اللّيطاني والْعاصي وَبَرَدَى والنِّيلَ ودِجْلَةَ والْفُراتَ) وَالثِّمارَ، فذَلِكَ مَعْنَى بارَكْنا حَوْلَهُ.
اُنْظُروا أَيُّها الْأَصْدِقاءُ سَلاسَةَ التَفْسيرِ بِالْعَرَبِيَّةِ وجَمالَهُ، فالْقارِئُ يَتَعَلَّمُ اللُّغَةَ والنَّحْوَ وَالْأَدَبَ، وّالْجَغْرافيا. فَلَا يُزْعِجُهُ إسنادُ الْأَحادِيثِ.
لَيْسَ صُدْفَةً اختَرْتُ مَطْلَعَ سُورَةِ الإسْراءِ لِأَرُدَّ عَلَى الَّذينَ باعُوا ذِمَمَهُمْ وقالوا إنَّ الْأَقْصَى لَيْسَ في الْقُدْسِ. قاتَلَهُمْ يُريدُونَ أنْيْطْفِئُوا نورَ اللَّهِ، وَاللَّهُ مُتِمٌّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرونَ.
تَمَّ الْمَقالُ
ا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق