الأربعاء، 3 مايو 2023

🌺قراءة في قصيدة🌺لطفي منصور

 أ. د. لطفي منصور

قَصيدَةُ "حَبَقُ ثَغْرِي" لِلدُّكْتُورَةِ ريم فرحات أبو ريّا

سَخْنِين

كُنْتُ قَبْلَ عِقْدَيْنِ مِنَ الزَّمانِ مِنْ غَيْرِ الْمِتَحَمِّسِينَ لِقّصِيدَةِ النَّثْرِ، وَأَرَى في هَذا اللَّوْنِ مِنَ الشِّعْرِ هُوَ عَمَلُ الْمارِقِينَ مِنَ الشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ الْعَمُودِيِّ الْأَصِيلِ الَّذي يَقُومُ عَلَى عَروضِ الْخَليلِ وَبِحُورِهِ الْمَعْروفَةِ مُنْذُ الْجاهِلِيَّةِ، وَمُرورًا بِعُصُورِ الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ حَتَّى يَوْمِنا هَذا. كُنْتُ أَتَّهِمُ كاتِبيهِ بِالْهُرُوبِ مِنْ عِلْمِ الْعَرُوضِ وَالْأَوْرانِ ، إلى هذا اللَّوْنِ مِنَ الشِّعْرِ.

اسَتَمَرَّ هَذا الْحالُ عِنْدِي إلى أَنْ بَدَأْتُ أَقْرَأُ فِيهِ لِأَسْتَسِيغَهُ، فَجَرَى عَلَى ذَوْقي، وَوَجَدْتُ خِطابًا لِلْفِكْرِ راقَنِي، وَمُتْعَةً ذِهْنِيَّةً في صُوَرٍ شِعْرِيَّةٍ أَعْمَقَ وَأَكْثَرَ اتَِساعًا أَحْيانًا مِنَ الْمَوْزُونِ الْمُقَفّى الَّذِي يُقَيِّدُ قُدُراتِ الشَّاعِرِ، فَيَميلُ إلى الِاقْتِضابِ وَيَتْرُكُ مَعانِيَ مُهِمَّةً لا يَسْتَطِيعُ نَظْمَها.

كانَ لِأَدَبِ الْمَرْحُومِ جُبْران خليل جُبْران أَثَرٌ في تَعْديلِ نَظْرَتي إلى شِعْرِ النَّثرِ، عندما أَعَدْتُ قَرَءَةَ بَعْضَ كُتُبِهِ كَالْأَجْنِحَةِ الْمُتكَسِّرَةِ، وَالنَّبي وَمَعَ النَّبي، وما كَتَبَهُ أَوْ تَرْجَمَهُ الْأديبُ الْمَنْفَلوطي وَغَيْرُهُما.

لا أَعْرِفُ لِماذا انْتَشَرَتْ قَصيدَةُ النَّثْرِ اِنْتِشارَ النَّارِ في الْهَشِيمِ بَيْنَ الشّاعِراتِ. وَقَدْ تَعَرَّفْتُ أثْناءَ تَدْريسي الْعَرَبِيَّةَ في كُلٍّيّاتِ إعدادِ الْمُعَلِمِينَ عَلَى الطّالبةِ ريم فرحات أبو رَيا الَّتي بَرَزَتْ وَتَفَوَّقَتْ بِصُورَةٍ مَلْمُوسَةٍ في فُروعِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَما قَدَّمَتْ لي عَمَلًا كانَ باكورَةَ إنْتاجِها في كِتابَةِ الْقِصَّةِ الْقَصِيرَةِ وَقَدْ أَبْدَعَتْ بِكِتابَتِها.

وَمِنْ خَلالِ المَنْشوراتِ الْأَدَبِيَّةِ الَّتي بَدَأتُ أقْرَأُها في الشَّبَكَةِ الْعَنْكَبوتِيَّةِ اطَّلَعْتُ عَلَى اًنْتاجِ ريم الْأَدَبيِّ في قَصِيدَةِ النَّثْرِ، وَكُنْتُ قَدْ نَسيتُها سُنِينَ عَديدَةً لِانْشِغالي بِأُمُوري الْخاصَّةِ. 

بَدَأتُ أَقْرَأُ قَصائِدَ رِيم فَراقَنِي شِعَرُها وَفاجَأَنِي حُسْنُهُ وَإبْداعُهُ وَصُوَرُهُ الشِّعْرِيَّةُ وَاهْتِمامُها بِشُؤونِ الْمَرْأَةِ وَالْمُجْتَمَعِ .

قَرَأْتُ لِلشَّاعِرَةِ، مَعَ تَحْليلٍ أَدَبِيٍّ عِلْمِيٍّ أكّادِيمِيٍّ، عِدَّةَ قَصائِدَ وَنَشَرْتُها لَها.

وَهَاهِيَ قَصيدَةٌ جَديدَةٌ أُقَدِّمُها لِمُتَذَوِّقي الْأَدَبِ الْجَمِيل:

حَبَقُ ثَغْرِي

عُنْوانُ الْقَصِيدَةِ قِسْمٌ مِنْ شَطْرٍ، وُفِّقَتْ في اخْتِيارِهِ. الْحَبَقُ نَوْعٌ مِنَ الرَّيْحانِ طَيِّبِ الرّائِحَةِ. يُطَيِّبُ بَخْرَةَ الْفَمِ. بِكَلِماتٍ أُخْرَى عِطْرُ الْفَمِ.

تُخاطِبُ الشّاعِرَةُ مَجْهُولًا بِاسْتِفْهامٍ مَشْفُوعٍ بِالتَّعَجُّبِ:

- كَيْفَ أَعَدْتَ الْماءَ إلى جَداوُلِ صَمْتِي

- وَكانَتْ قَدْ نَضَبَتْ يَنابِيعُ شِعْرِي

نَحْنُ أَمامَ عَهْدَيْنِ : عَهْدِ حُضورِ الْمُخاطَبِ، وّهُوَ عَصْرُ النُّورِ، وَسَرَيانِ الْماءِ داخِلَ الْعُودِ، بَعْدَ جَفافٍ أَوْ كادَ في عَصْرِ نُضُوبِ الْفِكْر. فَتَتَساءَلُ

باسْتِفْهامٍ رائِعٍ عَنْ هَذا التَّحَوُّلِ .

جَداوِلُ صَمْتِي مَجازٌ خارِقُ 

الْجَمال، رَمْزٌ بِالْمَاءِ يَفُوقُ التَّصْرِيح. نَضَبَتْ اسْتِعارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ جَعَلَتْ لِلشِّعْرِ يَنابِيعَ، يا لِجَمالِ التَّعْبِير!

تَشْبيهُ فَقْرِ الْفِكْرِ مِنَ الْخَلْقِ وَالِابْتِكارِ بِالْأَرْضِ الْقاحِلَةِ لِنِضُوبِ الْماءِ صُورَةٌ شِعْرِيَّةٌ تَعْجَزُ عَنْها الرُّسوماتُ.

- قَبْلَكَ سَقَطَتْ وُرَيْقاتُ كُحْلي

- وَفي عَهْدِكَ أَزْهَرَتْ الْوُرَيْقاتُ في أَحْداقِي

نَفْهَمُ مِنْ هَذَيْنِ الشَّطْرَيْنُ تَفاصِيلَ الْعَهْدِ الْجَديدِ. سُقُوطُ الْكَحَلِ مِنَ الْعَيْنَيْنِ لِقَسْوَةِ الظُّرُوفِ يُفْقِدُهُما سِحْرَهُما، وَالتَّغَيُّرُ فيها يُرْجِعَ لِلْعَيْنَيْنِ بَريقَهما وَجَمالَهُما. يَقولونَ: أَجْمَلُ ما في الْإنْسانِ وَجْهُهُ، وَأَجْمَلُ ما في الْوَجْهِ الْعَيْنانِ .

- تَبَدَّدَ غَمامُ حَرْفِي

- أَشْرَقَتْ شُمُوسُ اطْمِئْنانِي

تَعْبيرُ غَمامِ الْحَرْفِ وَشَمْسِ الِاطْمِئْنانِ ، الْأَوَّلُ مِنْهُما يُفيدُ التَّخَبُّطَ في الْكِتابَةِ حَتَّى لا أَكادُ أُفْهَمَ. الثّاني يْفيدُ الِاسْتِقْرارَ وَالثَّباتَ، وَهُما شَرْطانِ مُهِمّانِ لِلْإبْداعِ وَفَّرَهُما حًضُورُ الْمُخاطَبِ.

التَّبَدُّدُ وَالْإشْراقُ صُورَةٌ شِعْرِيَّةٌ خَلّابَةٌ في تَناوُبِهِما.

- مَنْ أَوْدَعَ سِرَّ الْحَياةِ في عَيْنَيْكَ

- كُلَّما نَظَرْتُ إلَيْكَ

- تَصِيرُ كَآبَةُ الْخَرِيفِ حَبَقًا عَلَى ثَغْرِي

تَعابِيرُ في غايَةِ السِّحْرِ والْجَمالِ . هَذا الْجَرْسِ الدّاخِلِ ، مَعَ حَرَكَةِ الْعَيْنَيْنِ الْمُسْتَمِرَّةِ يَهُزُّ النَّفْسَ حَقًّا. هُناكَ سِرُّ الْحَياةِ في عَيْنَيِ الْمُخاطَبِ، وَهَذا وَصْفٌ جَميلٌ لِلْعَيْنَيْنِ دونَهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: مِنَ الطَّوِيل

وَعَيْنانِ قالَ اللَّهُ كُونا فَكانَتا

فَعُولانِ بِالْأَلْبابِ ما تَفْعَلِ الْخَمْرُ

كَآبَةُ الْخَرِيفِ وَبُكاؤُهُ الْأَوْراقَ الَّتِي لَفَظَتْ أَنْفاسَها. مَنْظَرٌ يُثِيرُ التَّشاؤَمَ وَخاصَّةً عِنْدَ الشُّعَراءَ غّيْرَ أَنَّ حُضُورَ الْمُخاطَبَ غَيْثٌ أَنْبَتَ حَبَقًا عَلَى الثَّغْرِ، وَلِماذا الثَّغْرُ لأَنَّ الرِّيقَ أَوَّلْ ما يَجِفُّ في الْإنْسانِ . صُورَةٌ بَيانِيَّةٌ ساحِرَةٌ. لَمْ يَأْتِ نُعَيْمَةَ بِأَفْضَلَ مِنْها في قَصيدَتِهِ "أَوْراقُ الْخَرِيفِ:

تَناثَرِي تَناثَرِي

يا بَهْجَةَ النَّظَرْ

يا مَرْقَصَ الشَّمْسِ

وَيا أُرْجُوحَةَ الْقَمَرْ

ثُمَّ تَتَوَجَّهُ الشَّاعِرَةُ بِضَميرِ الْمُخاطَبِ لِتُؤَكِّدَ ما تَقُولُ:

- أَنْتَ سَيِّدِي قَمَرٌ يُنِيرُ أَعْماقي - عَبْقَرِيٌّ أَنْتَ مِثْلَ بَحْرٍ هادِئٍ

- لَكِنْ تَقْطُنُ أَعْماقَهُ أَعْظَمُ الْأَسْرارُ

هَذِهِ الْأَشْطُرُ وَما بَعْدَها أَوْصافُ الْمُخاطَبِ الَّتي رَسَمَتْها لَهُ الشّاعِرَةُ: نُورٌ وَعَبْقَرِيٌّ، هادِئُ النَّفْسِ كَالْبَحرِ، مَكْنُونُ الْأَسْرارِ غَيْرِ الْمُنْكَشِفَةِ لِأَحَدٍ. لِذَلِكَ يَبْقَى مَجْهُولًا. يُذَكِّرُني هَذا بِبَيْت أَبِي الطَّيِّبِ:

هُوَ الْبَحْرُ غِصْ فِيهِ إذا كانَ ساكِنًا

عَلَى الدُّرِّ وَاحْذَرْهُ إذا كانَ مُزْبِدا

طَرِيقَةٌ رَقِيقَةٌ في الْمَديحِ لَيْسَ فِيهِ صَخَبٌ وَلا ضَجيجٌ.

-قَوِيٌّ كَعِياضٍ يَسيرُ مَلِكًا

في عَتْمَةِ اللَّيالي الْمُدْلَهِمّاتْ

شَبَّهَتِ الشّاعِرَةَ الْمُخاطَبَ بِعِياضٍ. مِنَ الْمَشْهُورينَ بِهَذا الِاسْمِ إثْنان: الْقاضِي عِياض صاحب كتاب الشِّفا. وَعِياضُ ابن غُنْمٍ مُساعِدُ خالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ في فَتْحِ الْعِراقِ.

- مِغْوارٌ شَرِسٌ في ساحاتِ الْوَغَى

يَهابُكَ الْأَعْداءُ

الدّاني مِنْهُمْ وَالْقاصِي

أَخْرَجَتِ الشّاعِرَةُ الْكَلامَ عَلَى الْمَجازِ، وَهِيَ تَعْنِي مَيْدانَ الْقَلَمِ وَالْكَلامِ. وَسُمِّيَتِ الْحَرْبُِ بِالْوَغَى لِصِياحِ الْأَبْطالِ

- كَريمٌ كَالنَّخْلِ تُساقِطُ رُطَبًا

لِعابِرِي سَبيلٍ غُرَباءْ

- لَطيفٌ كَنَدَى الْفَجْرِ حِينَ تَراني

لَمْ تَتْرُكِ الشّاعِرَةُ خَصْلَةً مِنَ الْخِصالِ إلّا وَأَنْحَلَتْها الْمخاطبَ: الْعِلْمُ والشَّجاعّةُ وَالْقُوَّةُ وَالرِّقَّةُ وَالْكَرَمُ، وَكُلُّها تَغَنَّى بَها الشُّعَراءُ الْعَرَبُ مُنْذُ الْجاهِلِيَّةِ. يَجْمَعُها جَميعًا مُصْطَلَحُ مُرُوءَةٍ، وَهِيَ أُسُّ الدِّينِ.

قَوْلُها لِعابِرِي سَبيل أيُّ هُوَ لِكُلِّ النّاسِ.

-خَبِّئْنِي في خَزائِنِ قَلْبِكْ

لا تَبْتَعِدْ عَنِّي

- لا أُرِيدُ فِقْدانَكَ فَيُراقَ نَسَغُ أَحْزاني

مَنْ هُوَ هَذا الْمُخاطَبُ الَّذي أصْبَحَتِ الشّاعِرَةُ في صَمِيمِ شَرايِينِهِ، لا تُريدُ لَهُ فِراقًا وَلا ابْتِعادًا؟

طَبْعًا لا شَيْءَ يَحْتَلُّ تِلْكَ الْمَكانَةَ سِوَى الشِّعْرِ، وَلَيْسَ غَيْرَ الشِّعْرِ.

- أَنْتَ الْأَلْوانُ في لَوْحاتِ حَياتي

- فَكَيْفَ أَرْسُمُ خَيْلًا أَصِيلَةْ

الْأَلْوانُ هُنا الصُّوّرُ الشِّعْرِيَّةُ الْمُتَعَدِّدَةِ الْأَشكالِ. وَالْخَيْلُ الْأَصِيلَةُ الْقَصائِدُ.

- تَغْدُو في الْبَراري

إنْ جَفَّتِ الْأّلْوانُ

في مِدادِي

تَرْمُزُ الشّاعِرَةُ إلى خُلُودِ قَصائِدِها حَتَّى وَلَوْ جَفَّ مِدادُها

وَبَعْدُ،

كَلِماتُ الْقَصيدَةِ مِنَ الصِّحَّةِ وَالنَّقاءِ وَالصّفاء وَالْفَصاحَةِ وَالرِّقَّةِ وَالسُّهُولَةِ الَجَزْلَةِ كَفَرائِدِالْجُمانِ ، نُثِرَتْ عَلَى بِساطٍ كُسْرَوِيٍّ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

🌹أطلت كالهلال✍🏻 جاسم الطائي

 ( أطلّت كالهلال ) أطَلَّت كالهلالِ فكانَ عيدُ وقالت : هل أتى فصلٌ جديدُ بخيلٌ أنتَ والدنيا رُدودُ فما لي والهوى قدرٌ عنيدُ وما لي والمدادُ ...