الجمعة، 5 يوليو 2024

🌹تفكّر وتدبّر✍🏻 د. لطفي منصور

 أ.د. لطفي منصور

أفكرُ في رمضانَ والصومِ والعباداتِ الدينيّةِ الإسلاميّة كلها، أي أركانِ الإسلام وأركان الإيمان التي أتى بها دينُنا الحنيف.

فلو تدبَّرنا هذه العبادات وتلك العقائد لوجدناها تناوَلَت طهارَةَ النفسِ والعقلِ والقلبِ والجسَدِ كلِّه. لم يتركْ الدّين أيَّ منفَذٍ للشُّرورِ والآثامِ أن تَلِجَ منه إلى داخلِ قِوانا العقليّة والجسديّة والنفسيّة لتفسدَ علينا حياتَنا، وتُعكِّرَُ علينا صَفْوَ أرواحِنا.

فقد وضعنا اللهُ في حِصنٍ حصينٍ بهذه الطهارات والعبادات، وشاكَ علينا أسوارًا من العقائدِ المُحكمة التي هي زُبدَةُ ما وصلت إليه البشريَّةُ من حُبِّ الخيرِ والعمل الصالحِ واحترامِ الآخَرِ ، وقيَمِ العدالة، التي رسَّخت القوانينَ الإنسانيّةَ بالمساواة والنزاهة، من مثل القواعِد المتجذِّرَةِ في حياةِ الأمم، في شتّى أنحاءِ الأرض: (البينةُ على مَنِ ادَّعَى واليمينُ على مَنْ أنكر) أو الحديث النبويُّ الشريف (لا فضلَ لعربيٍّ على أعجمِيٍّ إلا بالتقوى) لم يقل لمسلم، لأن الدينَ الإسلاميَّ يحترم الأديانَ الأخرى، ولا يُجيز سفكَ دمِ غيرِ المسلم بسبب عقيدته. لأنهم خَلْقُ اللهِ لهم حرمةٌ وذِمَّةٌ.

قاعدةٌ راسحة في ديننا نطقَ بها القرآن وهي عدم فرض الدين بالقوّة (أفأنتَ تُكرِهُ الناسَ حتى يكونوا مؤمنين. يونس : 99)، ومثلها في البقرة 256: لا آكراهَ في الدّين قد تبيّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ).

وفي الحديث الشريفِ أيضًا: " بُعِثْتُ بِالْحَنيفَةِ السَّمْحَةِ".

هذا هو الإسلام أن يكونَ المسلمُ ابنَ سلامٍ للآخرين. هذا هو التسامحُ بينَ الشعوبِ والأديان الذي تطلبُه البشريّة.

ليس معنى التسامحِ والإسلامِ الاستسلامَ للطغاةِ الذين يعتدونَ على بيضَةِ الإسلام. لا. فهناك القرآن يزخرُ بالدفاعِ عن الأسلامِ والمسلمين وحمايةِ الأرضِ والعِرض. لكن لا يجوزُ للمسلمين أن يكونوا معتدين. دينُنا لا يسمحُ لنا بالعدوان.

فمعنى كلمة العُدوان والاعتداء هو تجاوُز الجقّ المشروع للمسلمين. ففي القرآن : (لا تعتدوا. وإنّ اللهَ لا يُحبُّ المعتدين).

أمّا ما بعد هذه المقدّمة يأتي السؤال الذي من أجله كتبتُ تلك الأسطرَ. وهو في أكثرَ من جانب واحد؛

لماذا نحنُ العربَ - لا أقولُ المسلمين لأن هناك دولا إسلاميّة قد تحررت وتقدّمت أو في طريقها إلى التقدّم. ونحن نعتزّ بها- أعني المسلمينَ من العرَب في الدّرَكِ الأسفلِ في سُلّمِ التقدّم البشري؟

لماذا يحصلُ هذا الدمارُ في بلادِ العربِ على أيديهم هم، أي يُخرِّبونَ بيوتَهم بأيديهم. لماذا هذا الاقتتال الداخليُّ بينهم بالرغم من القيَمِ الدينيّة التي أتى بها الرسول محمد. وهو منهم، والإسلام وُلِدَ بينهم، وهم ناشروهُ بينَ الأمم؟

هذا السؤال المركّب يحتاج إلى تفكيرٍ أوّلا ثمّ إلى عِلمٍ ثانيًا. أعني علمًا في التاريخ العربي من الجاهليّة حتى يومنا هذا.

سأحاولُ الآجابةَ عن هذا السؤال بقدر المستطاع. لأن الإجابة الكاملة تحتاج إلى طاقم من المؤرِّخين المختصِّين. وسأحاولُ تقريبَ الحقائقَ ما أمكنني.

الإجابة ترتكز على ثلاثة أركان:

1 - معلوماتي الخاصّة: تشتمل على الدراسات والأبحاث التي كتبتُها أو محاضراتي على مدى أربعين عامًا.

2 - ما قرأته من أبحاث المستشرقين.

3 - ما قاله ابن خلدون في مقدّمته عن العرب.

أسباب الوهن في الإمبراطوريّة الإسلاميّة:

1 . الصراع على الخلافة:

ما لحق نبيّنا محمد صلواتُ اللهِ عليه إلى الرفيق الأعلى حتى نَشِبَ خلافٌ بين المسلمين على منصب خليفةِ الرسول. فمن المتعارف عليه أن الرسول لم يوصِ لأحَدٍ لخلافته من بعده. هنا انقسمَ المسلمون، القسم الأغلب من المهاجرين قد بايعَ أبا بكرٍ الصدّيق لأنه صلَّى بالمسلمين في مرضِ النبيّ بناءً على طلبِ النبيّ منه. كما يقول قسمٌ من المسلمين.

القسم الآخر من المسلمين هم الأنصار الذين طالبوا بالخلافة.

القسم الثالث هو عليٌّ وفاطمةُ والعبّاس عمّ النبيّ ومن شايَعَ عليًّا وطالب بالخلافةِ له.

استطاع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة إقناع الأنصار بقولهم لهم:

نحن الأمراء وأنتم الوزراء.

وسكتَ عليٌّ وفاطمة ولم يباعيا مدّةَ ستّةِ أشهرٍ. ثم بايعا كرهًا على يدِ عمر.

في شرق جزيرة العرب حيثُ كفرةِ بني حنيفة أعلنوا الرِّدَّةَ وبايعوا مسيلمةَ الكذاب، وكانت له منافسةٌ في النبوةِ اسمها سجاح، استطاع مسيلمة اقناعها بالزواج منه والتنازل عن النبوّة، وسمّى مسيلمة نفسَه رحمان اليمامة. المدينة المعروفة اليوم، وانضمت له قبائل من تميم ، فحاربهم ابو بكر بقيادةِ خالد بن الوليد وقُتِلَ مسيامة وعادَ المرتدون إلى حظيرةِ الإسلام مُكرهينَ بالسيف.

سكوتُ عليٍّ عن الخلافة كان في الظاهر فقط كجذوةِ الجمرِ تحتَ الرماد.

توسعت الدولة الإسلامية بالفتوح. وفتحَ الشامُ كلّه والعراق ومصر، وقسمٌ من شمال أفريقية، قسمٌ من بلاد فارس.

مات أبو بكر ودامت خلافته سنتين ونصف تقريبّا، وقُتِلَ عمرُ ابنُ الخطاب، ودامت خلافتُه عشرَ سنوات، وهو المؤسس الفعلي لدولة الإسلام.

انتخبَ عثمانُ بن عفّان، وسكتَ عليٌّ على أحًرَّ من الجمر. دامت خلافةُ عثمان اثنتي عشرةَ سنةً. ثم حدثَ الزلزالُ العظيم، أو ما يُعرفُ في التاريخ بالفتنةُ الكبرى. فقد قُتل الخليفةُ عثمان في بيته على يد ثوّارٌ جاؤوا من العراق ومصر. ومنهم محد بن أبي بكر الصديق؛ وكانت عائشة تحرِّض على قتلِ عثمان، وقالت: أقتُلوا عَنْثَل. وعنثل كان يهوديا في المدينة كَثَّ اللحيةِ طويلَها.

بايعَ الثوارُ عليًّا الذي لم ينصر عثمان وهو قريبٌ منه في المدينة فقبل. وأصبح عليٌّ خليفةً. وبايعه أعضاءُ مجلس الشورى خوفًا وعائشةُ أيضًا.

وفي ليلةٍ من الليالي انشقّ الزببرُ بنُ العوّام أمينُ الأمّة - هكذا سمّاهُ النبي - وهو زوج أسماء أخت عائشة. وغادرَ المدينة سِرًّا مع طلحة بن عبيد الله - عضو مجلس الشورى - ومعهم عائشة فارّينَ إلى العراق لينضمّوا إلى جماعة لهم وأقاموا حزبًا مُناهضًا لعليّ.

أمّا الشّام فأصبحَ هو المشكلةَ الكبرى لعليّ. لم يبايعْه بالخلافة. فقد رفض معاويةُ بن أبي سفيان البيعةَ لعليّ، واتهمه بالتواطؤ مع الثوار على قتلِ عثمان، وطالبَ عليًّا محاكمةَ القتلةَ أو تسليمهم له لأن عثمانَ قريبُه فهو أولى بأخذ الثأر. رفض عليٌّ طلبَ معاوية.

عندئذٍ انتقلَ عليٌّ ومن معه إلى الكوفة في العراق. وأخذ يُعِدُّ العُدّةَ لحربِ عائشةَ ومن معها ثم حربَ معاوية.

هكذا انقسمَ المسلمون إلى معسكرات ثلاثة.

لا تنسوا أعزائي القرّاء أنهم جميعًا مسلمون، ويعرفونَ تعاليمَ الإسلام الذي يحرّمُ على المسلم سفكَ دمِ أخيه المسلم.

الحرب الأولى: وقعة الجمل:

هاجم عليٌّ بجيشه الكبير عائشةَ أمَّ المؤمنين التي كانت تركبُ جملا وتحرّضُ أتباعَها على القتال، وطلحةَ والزبيرَ وهما من المبشرين في الجنّة، وفتك بجيشهم وقُتل الصحابيّان، ووقعت عائشة بالأسر. فأرسلها عليٌّ إلى المدينة.

وقعة صِفِّين بين عليّ ومعاوية:

الحديثُ يطول، ولا مجالَ للإطالة فإني أحيلُ القراءَ إلى كتاب "تاريخ أبي زرعة الدمشقي" بتحقيقنا ودراستنا ففيه المقصد.

أقول باختصار: انتهت معركة صفين دون حسمٍ، لم ينتصرْ فيها فريقٌ على الآخر. انتهت بالتحكيم الذي كانَ فشلًا ذريعًا لعليّ الخليفة أمام والٍ هو معاوية.

هنا بدأ الانقسام الفعلي بين المسلمين، الذي ندفعُ ثمنَهُ حتى اليوم.

ظهور الخوارج وحربهم مع عليّ وقتله:

الخوارج هم جزءٌ من جيش علي، حاربوا معه في صفّين، وعارضوا التحكيم، وطالبوا عليًّا بمواصلةِ القتال، فخرجوا من جيشه، فقاتلهم عليٌّ وفتك بهم فتكًا ذريعّا لا يستحقّونه، في معركتي النهروان وحروراء. فتآمروا على قتله. فقتله ابن مُلجم. وهكذا استتبَّ الأمر لمعاوية بن ابي سفيان.

أما الخوارج فأدموا خاصرَةَ الدولة الأمويّة التي دامت ثلاثًا وتسعين سنة قمريّة وسقطت سنة 132/750 . بعد أن فتحت العالم القديم.

قامت الدولة العبّاسية على حراب المسلمين الفرس، الذين أداروا شؤون الدولة، طيلة العصر العبّاسيّ الأوّل.

ازدهرت الحضارة العربية في أيام العباسيين حتى أواخر القرن الرابع الهجري. أخذت أطراف الدولة بالاستقلال عن الحكومة المركزيّة. أول هذه الأطراف كانت الأندلس، التي اعلنت انسلاخها عن حكومة بغداد في أيام أبي جعفر المنصور، على يد عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأمويّة في الأندلس، ثم ما وراء نهر جيحون في االشرق، وظهرت ولايات في الشام ومصر. وأخذ سلطان الخلفاء يضعف على يد بني بويه والسامانيين ثم السلاجقة الأتراك. الذين جعلوا الخليفةَ ألعوبةً في أيديهم. وقد وصف أحد الشعراء خليفةً ضعيفا بقوله:

          خليفةٌ في قفصٍ بينَ وَصِيفٍ وَبَغا

           يَقولُ ما قالا له كما يقولُ الببغا

وصيف وبغا قائدان تركيّان.

وللاختصار اقول:

ابتُلي المسلمون عند ضعفهم بعدوّين لدودين هما الصليبيون الذين احتلوا أجزاء كثيرة من الإمبراطوريّة الإسلامية وخاصّة سواحل بلاد الشام وبيت المقدس. وحتى مصر تعرضت لغزو الصليبيين. بدأ الغزو الصليبي في العقد الأخير من القرن العاشر الميلادي ودام مِائَتي سنة.

أما المشرق فقد اجتاحه التتار المغول. الذين احتلوا بغداد سنة 1258م وقتلوا الخليفة السابع والثلاثبن المستعصم بالله. قتله هولاكو الذي خرّب كلّ شييء.

وهكذا انتهت دولةُ العربِ وتجزّأت إلى إمارات يحكمها حكّام ظالمون يوالون المغول في الشرق والصليبيين في الغرب.

وقد امتدّ الخرابُ غربًا، فأودى بالأندلس سنة 1492م

ثم ابتُلي العرب بالحكم التركي الذي دامَ أربعةَ قرونٍ كاملة. من سنة 1517 - 1917.

وأنتم تعلمون أيها القراء الأعزاء التخلّف والقهر، وإغلاق دور العلم، وبتحويل الكتب العربية إلى الأستانة (استانبول). حتى لم يبق للعرب من المخطوطات العربيّة إلا القليل المخجل.

هذا باختصار شديد ما حصل للعرب. وسببه: الصراع على الحكم والخلافة.

ولا يزال العربُ متصارعينَ متعاركينَ على كرسيِّ الحكم في أيامنا هذه وإلى أجلٍ غيرِ مسمّى.


2 . عدم تذويت تعاليم الإسلام النيِّرة في قلوب الأعراب؛

القرآن ذكرَ الأعرابَ خمسَ مرّات منها مرّةٌ واحدَةْ صالحةٌ، وهم أعرابُ المدينة المنوّرة الذين أظهروا الإيمانَ الصادق. 

يقول اللهُ تعالى في القرآن: الأعرابُ أشدُّ كُفرًا ونِفاقا، وأبعدُ أن يعلموا حدودَ الله.

ويقول في موضِعٍ آخرَ: وقالتِ الأعرابُ إنّا آمنّا، قلْ لن تؤمِنُوا وقولوا أسلمنا، ولمّا يدخُلِ الإيمانُ في قلوبِكم.

في الآية الأولى هم أبعدُ أن يعلموا حدودَ الله. حدودُ الله أي قوانينُه. والقانون من صفات الدولة والحضارة. لأن القوانين هي التي تجعلُ الحكمَ مستقِرًّا. وهي الكفيلة بتدبير شؤون الرعايا، فيعرفون حقوقهم فيأخذوها وواجباتِهم فيؤدّوها. 

.

فالبدو لا يدينون للدولة بل للقبيلة. وهم بهذا يقوِّضونَ الحكمَ ويضعفونَ الدولة. والأعرابُ الذينَ ذكرهم القرآن هم سكّان الصحراء، لا يعرفون آلا شَظَفَ العيش. وهم سكّانُ شرقي الجزيرة العربية وبادية الشام.

         يبكي على طَلَلِ الماضينَ من أسَدٍ

                               لا دَرَّ دَرُّكَ مَنْ هُمْ بَنُو أَسَدِ

        وَمَنْ تَميمٌ ومَنْ قَيْسٌ ولَفُّهُمُ

                      ليسَ الأعاريبُ عندَ اللهِ مِنْ أحَدِ

هؤلاء الأعراب أصبحوا حكامَ العرب، يعيشون في النعيم وليس هم من الحضارَةِ في شيءٍ. لأن الحضارة تتصل بالعقل. 

أما ما يتصل بالمادّة فهو تمدّن.

فكيف تريد من العربِ أن يَعُوا. والثقافةُ بينهم معدومة. لا يعرفون تاريخَ أمّتهم مثلَ هذا الجاهل الذي يهيِّؤُ لنفسِه عرشَ السعوديّة.

وقد ذكر ابن خلدون الأعرابَ في مقدّمة كتاب التاريخ. فقالَ فيهم:

العربُ أبعدُ الأممِ عن العُمران.

العربُ إذا دخلوا أرضًا سادها الخراب.

هم ينزلون بينَ المتحضرين منزلةَ الحيواناتِ الكاسِرَةِ بينَ البهائمِ.

3 ٠ ما يقوله المستشرقون عن الوهن والضعف عند العرب وأسبابُه:

هناك أسبابٌ كثيرَةٌ في نظرهم. وقد أعجبني قولُ المستشرق الفرنسي كلود كاهين. في كتاب له ترجم إلى العربية في دمشق سنة 1932م عنوانه تاريخ العرب. وقد ظهر بالعبرية ترجمه مدير المعارف العربية السابق عمانوئيل كوبلوفيتش.

يفول كلود كاهين إن أسباب اضمحلال العرب يعود إلى الخلفاء والسلاطين والحكام. فهم لم يُعَوِّدوا العرب على الاعتماد على أنفسهم. فاتكَلوا على ديوان العطاء والمال. ولم تكن عندهم ضرورةً ان يمتهنوا الصناعة المحلية كما كان في أوروبا في عصر الإقطاع. وهذا سبب التخلف العربي.


شكرا لكم لقد أطلت الموضوع بالرغم من اختصاري الشديد له. ودائما فوقَ كل ذي علم عليم.

اللهم زدنا علما.

سلمتم ودمتم.


يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

🌹أطلت كالهلال✍🏻 جاسم الطائي

 ( أطلّت كالهلال ) أطَلَّت كالهلالِ فكانَ عيدُ وقالت : هل أتى فصلٌ جديدُ بخيلٌ أنتَ والدنيا رُدودُ فما لي والهوى قدرٌ عنيدُ وما لي والمدادُ ...