تمهيد تحفيزي.
لا يملك الجميع متسع الزمن للتماهي مع المنشور. وهو عبارة عن قصيدة للشاعرة الكردية الراحلة " كزال ابراهيم خدر"، مشفوعة بقراءة مني. لطوله نوعا ما أولا. ولأن مشاغل أخرى قد تكون ذات أولوية بالنسبة لهم. لكن الذين ألفوا سحر الأدب. وفخامة لغة الضاد. بقراءتهم لهذا العمل، لا غرو انهم سيتشبعون من النبع الزلال.
+++++++++++
القصيدة.
لا أحيا إلا بعطر أنفاسك
ترجمة: د.بندر علي أكبر
شعر"كزال ابراهيم خدر
1
أنا: عندما تعرفت إليك
التهب جسدي من غير نار
وذابت صلابتي أمام ناظريك
بلا انتظار
وبسرعة أدركتُ أن ينبوع غرامي
امتد في أعماقك
عشقًا جنونيًا من غير قرار
2
أنا قبل أن أعرفك
رأيتك في أحلامي الواعية
أنا قبل أن أعرفك
اشتقت لرقصات أصابعك الحانية
وعشقتُ عينيك
المليئتين بالحُب
وقسمات وجهك الزاهية
3
كنت حين عرفتك
رابية، صرت جبلًا
ينبوعًا من الحُب تجولت برا
ليلًا ذا عيون خاتمية أصبحتُ فَجرًا
في قفص السجَّان طيرًا
عدت إلى الأغصان حُرًّا
أشدو للحياة لحنًا
وأغني للطبيعة سحرًا!
4
كنتُ في لقائنا الأول
ضيفًا في محرابك
في غير أوان
والجًا قبلك بلا استئذان
وكنتَ ضريح رجل طاهر
خاليًا من العيب والأدران
جئتُ لكي أضع حَجَرَين
بين عينيك المقدستين
لأعرف مستقبل أيامي
في حضرة مقامك السامي
5
منذ اليوم الذي عرفت فيه يديك
وارتويت من نور سناك
حرمت على فمي
تقبيل أيدي الشيوخ
فكن أنت وحدك شيخي
وأنا البنت المسيحية
كن وحدك درويش روحي
وأنا "تكية" ذكرك
ومحراب دعائك وأنا الضحية
6
مذ التقيتُ بك
لأول مَرَّة
وأنا مدينةٌ للأرض والغيوم
الغيمة قادتني
إلى موعد غرامك
والأرض عرفتني
رائحة تراب قدميك
7
حينما كتبتُ حروف اسمك
استاءت مني الكلمات
لأني فتشت بينها ،عن أقدسها
واخترت أبهى الجميلات
8
عاهدت نفسي
ألَّا أشم أبدًا وردة
لا تكون رائحتها كرائحة أنفاسك
ولا أشرب من ماء
لا يكون حلوًا كحلاوة دمائك
ولا أرتاح تحت ظل شجرة
لا تكون، بقدر قامتك، عالية
ولا أقبل ضوء شمس
لا تكون، بقدر عينيك، جميلة
ولا، بقدر نضارة وجهك، بهية
9
إذن، تعال، يا متيمي؟
وحدي لا تتركني
وافتح أبواب قلبك لي
لأذوب في أعماقك
فأنت تعلم حينما أتيبَّس لا يُحييني
++++++++
قراءة وتماهي أ. علي اليدري علمي.
لطالما تردد في دنيا الأدب سؤال محوري مفاده: من أين تستمد القصيدة شاعريتها، لتمتد فينا إبهارا؟
جوابا عن السؤال. يتم التجاذب بين النقاد من قائل بأولوية الموضوع الذي تتطارحه القصيده باعتباره جوهر رسالة الشعر. فيما ينزع آخر لعزو بريق القصيدة إلى ما يؤثثها من عناصر البديع. من مرجعية أن القصيدة هي قيمة فنية جمالية قبل كل شيء.
ويعن لي أنه مهما كانت درجة حماس، وقوة حجج الطرفين. إلا أنهما يجانبان الصواب. لما يحدثانه، برؤيتهما، من شرخ تعسفي في ذات القصية، التي لا تحتمل هذا التجزيء إلا على سبيل التحليل.
وبناء عليه. فإن القصيدة تستمد شموخ شاعريتها من تمازج الموضوع فيها مع المحسنات البديعية بشكل حميمي. وعلى سبيل القياس، أستحضر شواهد من قبيل رثاء الأندلس لأبي البقاء الرندي. هجو كافور للمتنبي. وقصيدة بيروت لمحمود درويش. ففي مثل هذه القصائد، تخاطبك الشاعرية حيثما وليت وجهك. فلا تكاد تلمس حدودا بين الشكل والمضمون.
وأنا أتجول في حدائق شعر الراحلة كزال ابراهيم خدر، راودني استحضار هذه الأحكام. وتثبيتها في مقاربة قصيدتها " لا أحيا إلا بعطر النفاسك "، التي نقلها إلى العربية مشكورا، د. بندر علي أكرم.
تومئ الشاعرة كزال، كأنها تحكي عن تجربة حب شخصية. فيتبادر إلى أذهاننا توا السؤال: هل يليق أن يكون الحب بهالة قضية. تشغل بالنا. وتأخذ منا كل هذا الاهتمام؟
إن الذي يتلعثم اقرارا بذلك جوابا، فقط يتلكأ في الصدع بالحقيقة. فالحب هو الرابط المنيع الذي يحصن مجتمعنا من التداعي والانهيار. أليس الحب نقيض الكراهية!؟ فأيهما ترتضي، وأنت في موقع اختيار؟ الحب بجدارة قضية فينا مفصلية. فما أجمل أن يكون عنوان قصيدة. تعالوا، اذن، سويا. نعاين كيف ترتبه الشاعرة كزال ببهاء. يتمازج فيه مبنى النص، بدلالة اللفظ.
عند تعرفها على نظيرها. سرى في جسدها لهيب. ذابت صلابتها في ناظريه بغتة. وتلمست ينبوع غرامها في أعماقه التي ما لها قرار. ألهذا الحد من الجنون، يمكن للحب أن يحمل إمرأة. كيف يمكنه، بهذا المستوى، ان يكون موضع خذلان!؟
وفي أبهى صور الوصف. وأرقى بلاغة التعبير. ان يكون نظيرها طبق ما رأته في حلمها الواعي. برقصات أصابع حانية. وعينين ممتلئتين بالحب. وقسمات وجه زاهية. من منا لا يعشق نظيره بهذه الأوصاف الخالبة!؟ وبالأحرى أن يصير المبتغى في قبضة كفه. إنها أقصى تخوم السعادة لا ريب.
ها هي ذاتها، انتشاء، تحولت، في حضرته، من ربوة إلى جبل. ومن الليل اصبحت فجرا. وفي قفص العشق صارت طيرا، يعود إلى غصنه حرا، يغني للطبيعة أجمل الألحان. فعلا. كل السجون منبوذة إلا سجن العشق، فهو، قطعا، مشتهى النظيرين.
يا له من بهيج الموعد الأول. في خشوع تدلف محراب نظيرها. وقد توسمته ضريح رجل طاهر. خال من كل الأدران. وفي ذهول تلج قلبه دون استئذان. لتضع حجرين بين عينيه المقدستين. وتأتمن أملها في قدسية مقامه كي يكبر. أبعد هذا الحد من العشق يوجد حد آخر!؟
بكل الوان الجمال، توثق الشاعرة حبها. فالغيمة السابحة في الفضاء تقتضي منها الاجلال. لأنها دلتها على الموعد الأول لعشقها. والأرض في امتدادها عرفتها على رائحة تراب قدميه. هكذا، تلتقط رسائل عشقه من كل شيء في هذا الكون. في دلالة على اتساع حجم هذا الشعور النبيل لديها. ولك أن تخمن حجمه في صورة بلاغية مدهشة. حين الحروف الحروف حتى، تستاء منها حين حرمت من أن تكون ضمن اسمه. ما أروعها بلاغة تعبير.
بناء على ما وثقت من شواهد. تنتهي إلى ابرام عهد مقدس مع ذاتها، ألا تأخذ من هذه الحياة، ألا ما يلوح بطيف عشيقها. رائحة وردة، أو ظل شجرة، أو شمس مضيئة. في تعبير عن مطلق الولاء له. ومن وضع انفطارها، تيتما به. تناجي همسا نظيرها، ان يتقدم اليها. ولا يتركها وحيدة. أن يفتح لها ابواب قلبه، كي تذوب فيه. مذكرة إياه، أنه وحده القادر على ان يمنحها الحياة.
هكذا، تقودنا الشاعرة كزال في رحلة عشق سامي. تداخلت فيها الصور البهية، مع المواقف النبيلة. لتنتج لنا قصيدة تجعلها في صف عظام الشعراء.
وعسى البعض يتساءل: إلى أي حد كانت الشاعرة صادقة مع ذاتها؟ وأن ما رسمته مطابق تماما لواقع تجربتها الشخصية؟ تماهيا مع هذه التساؤلات. يجب التذكير أن كزال ليست ملاكا. ولا ادعت النبوة. بل هي شاعرة وفية للرسالة. يهمنا منها أنها أغدقت علينا من معالم جودة فن الشعر. ووضعتنا فكريا أمام خارطة طريق، لنرتقي بأنفسنا في موضوع العشق العابئ باللبس قطعا. لنتطلع إلى ملامسة حدوده القصية كما رسمتها. والتي لا جدال في رفعتها وسموها.
شكرا لمن أتاح لنا الإطلاع على القصيدة بنشرها في مواقع متعددة. ورحم الله الشاعرة الفقيدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق